كرسي خشبي مهترئ وقطار يتصاعد بخاره كلما اقترب من محطة الوصول , شيئان أصبحا يربطاني بالحياة بعد رحيلك يا أمي ,, ألم يحن بعد موعد ولادة اللقاء من رحم الاشتياق؟ ابتعدت عن كل ما يزعجك كي لا تغضبي مجددا ,, لم أعد أتشاجر مع أخي الأصغر ,, أصبحت ألبي رغبات والدي ولا أناقشه فيها ,, ألست من أخبرني يوما أن من يعصى أهله يعاقبه الله بحرمانه منهم ؟
عقد من الزمن جمعني بهذه المحطة , لم أفارقها يوما منذ أن رحلت ,, تعرفت على كل عامل فيها ,, من المسؤول عن التذاكر إلى أصغر بائع سجائر ,, سمعت قصص أشخاص يرحلون عن أحبائهم بسبب الظروف ,, لكنهم يعودون ,, يعودون يا أمي و إن امتد غيابهم لسنوات ,, فهل تراك ستعودين يا أمي ؟
ما زلت أذكر ذلك الشاب العشريني ,, كنت التقيه دوما في هذا الكرسي ,, لم نتحدث لوقت طويل ,, كنا نحدق في اللاشيء ,, نقف عندما يصل القطار ,, نتأمل الركاب ونعود لكرسينا ,, لمحت يوما دمعة عالقة بين أهدابه حائرة أتكمل طريقها ام لا ,, أنزلت عيني وقلت بصوت لا يكاد يسمع : " لعلهم لا يستقلون قطار العودة ,, فلو وجد قطار عودة لما وُجِد غائبون " ,, أجابني دون أن ينظر إلي : " يبدو أن قرار إخلاء سبيلي من الماضي لم يتم إصداره بعد " هذه المرة رفعت عيني ونظرت إليه ,, وجدته ينظر إلي نظرة حزينة ويبتسم ,, قلت وأنا أبتسم : " إن كان القاضي كسولا ,, قم بإصداره بنفسك " ,, ضحك ضحكة خفيفة , حمل معطفه , نظر إلي نظرة " وداع " ورحل ,, ومن يومها لم يعد ,, وصلته رسالة براءة من الماضي أليس كذلك يا أمي ؟
انتابتني رغبة اليوم في أن أرتدي ثوبا وأسرح شعري بالطريقة التي تحبينها ,, يبدو مظهري طفوليا يا أمي ,, لطالما أخبرتك قبل رحيلك أنني أكره الأثواب فهي تجعلني أبدو كطفلة ,, لكنني الآن مستعدة أن أبدو طفلة فقط عودي إلي ... !!
في طريقي إلى المحطة ,, حاولت أن أتذكر ملامحك ,, لطالما كانت هذه طريقتي للتخفيف من شدة حنيني إليك ,, آه يا أمي لو تدركين كم أشتاقك ,, كنت غاضبة لأنك تركتني وحيدة بسبب خلاف مع والدي ,, لكن عقدا من الزمن كان كافيا لتبخير الغضب ,, لم يعد يهمني لم رحلت ,, ولم لَم تسألي عني يوما ,, لا يهمني إن أصبحت لديك مدللة غيري ,, لا يهمني إن جدلت ظفائر شعرها بدل شعري ,, كل ما يهمني أن أضمك مجددا ,, أن أستنشق عبير رائحتك ,, كل ما أريده هو حضنك الدي يطمئنني أنه مهما ساءت الأمور يوجد دوما ضوء أمل في آخر الممر ,, وإن كان خافتا لكنه موجود ,,
توجهت مباشرة لكرسيي ,, أتوسل لقاء قريبا فقد أضناني الشوق ,, جلست بقربي فتاة صغيرة مدت بدميتها إلي وأخبرتني بصوت خافت كمن يخبر سرا ,, " أمي قادمة من السفر اليوم " ضممتها إلي ولاعبت وجنتيها اللتان احمرتا بسبب جلستها تحت الشمس في انتظار والدتها ,, أخبرتها أنني أيضا أنتظر أمي منذ زمن لكنها لم تعد بعد ,, نظرت إلي بتعجب وقالت : " لِم تنتظرين كل هذا الوقت ؟ لِم لَم تذهبي إليها أنتِ ؟ .. صدقيني قلبك سيرشدك "
في البداية لم أستوعب .. معها حق ,, لِم لَم أجرب أن أستقل قطارها فقد يقودني إليها ؟؟ ضحكت لذكاء الفتاة الصغيرة ,, التفت إليها وجدتها تركض ناحية والدتها وتضمها ,, تمنيت بشدة أن أضم أمي مثلها يوما ما ,,
صعدت إلى القطار الدي لطالما انتظرت أن تنزل منه والدتي ,, أنا قادمة يا أمي ,, فهل سيكون القطار الذي فرقنا هو نفس السبب في اجتماعنا مجددا ؟؟ أتمنى ذلك ,, من كل أعماق قلبي أتمنى ذلك ,, !!
انطلق القطار ,, وارتفعت دقات قلبي ,, هل يعقل أنني سأراك بعد عشر سنوات ؟ سأضمك مجددا ؟؟
وصلنا للمحطة التالية ,, لم أستطع الانتظار أكثر ,, نزلت ,, جلت ببصري بين الحشود ,, لتقع عيني على بقعة الضو ء التي أبت أن تنير حياتي طوال عشر سنوات ,, تجلس على كرسي خشبي مهترئ وتنتظر قطارا يتصاعد بخاره كلما اقترب من محطة الوصول ,, شيئان أصبحا يربطانها بالحياة بعد رحيلها ...