سلسلة : مقومات الداعية .الفصل ( 1 و2 ) للشيخ محمد الشنقيطي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين .
والصلاة والسلام على من بعث رحمة للعالمين ، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى
بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين . أما بعد :
سلسلتنا هذه بعنوان : (مقومات الداعية) . للشيخ : ( محمد الحسن الددو الشنقيطي )
وسنتكلم فيه إن شاء الله على العناصر التالية :
مقومات الداعية :
الدعوة إلى الله من أعظم
القربات ، وأعظم الواجبات، وبها يهدي الله أقواماً ضلوا سواء السبيل .
وللدعوة وسائل لابد من توافرها لنجاحها، كما لابد من وجود صفات مهمة في
الداعي إلى الله ؛ ليكون ناجحاً وموفقاً في عمله .
الفصل الاول :
فضل الدعوة والدعاة
إن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالدعوة فقال : ( وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [يونس:25] ، ووصف رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالدعوة فقال : ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ) [الأحزاب:46] ، وأمره بالدعوة فقال: ( وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [القصص:87] ، وقال : ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النحل:125] ، وأمره أن يخبر عن نفسه وعن أتباعه بأن سبيلهم الدعوة فقال : (
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا
وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) [يوسف:108] ، وأخبر كذلك أنها أحسن الأقوال وأرضاها عنده فقال : ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) [فصلت:33] ، وقد رتب الله عليها من الفضل العظيم، والأجر الجزيل الشيء الكثير،
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين
أعطاه الراية يوم خيبر: (فوالذي نفسي بيده! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً
خير لك من حمر النعم)، فجعل هداية شخص واحد على يديه خيراً له من أن يملك
حمر النعم، أي: خير من أن يملك ما في الأرض من الإبل، والمقصود بذلك: أن يتصدق بها في سبيل الله مثلاً. ويكفي في بيان فضل الدعوة أنها وظيفة الأنبياء، فقد أختارهم الله لها: ( رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) [النساء:165] ، ومن المعلوم أن رسل الله هم أفضل خلقه، وقد اختارهم من ملائكته، ومن البشر، فقال تعالى : ( اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ )
[الحج:75] ، فالذين اصطفاهم الله اختار لهم وظيفة يقومون بها وتلك الوظيفة
هي أفضل الوظائف وأسماها عند الله سبحانه وتعالى، وأعلاها. ومن فضل الدعوة
أن القائم بها قائم بالحجة لله في الأرض، وقد قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ) [النساء:135] ، وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ) [المائدة:8] ، وقد افترض الله ذلك على هذه الأمة فقال :
( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ
الْمُفْلِحُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا
مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ )[آل عمران:104-105] ، وقال تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ
سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ )[التوبة:71] .
فائدة الدعوة :
أما فائدة الدعوة فهي :
مدافعة الباطل، فإن الله جعل الدار الدنيا مسرحاً للتدافع بين الحق
والباطل، ورتبها على هذا الصراع الأبدي المستمر الذي لا ينقضي حتى يرث الله
الأرض ومن عليها، فقد جعل الله سبحانه وتعالى في هذه الأرض مصلحين وهم:
حزب الله، ومفسدين وهم: حزب الشيطان، وجعل الصراع مستمراً ودائراً بين هذين
الحزبين، لكن الله سبحانه وتعالى حكم بالعاقبة للمتقين، وجعل حزب الله
أعلى منزلة وأسمى قدراً، فقال: ( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [المجادلة:22] ، وقال تعالى: ( فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ) [المائدة:56] ، وفي المقابل قال: ( إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) [المجادلة:19] . وقد حكم الله سبحانه وتعالى بالغلبة لحزبه، فقال تعالى : (
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ
يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ ) [الأنبياء:105-106] ، وقال تعالى: ( كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) [المجادلة:21] ، وقال تعالى : ( إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) [الأعراف:128] ، وقال تعالى: ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ
كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ
دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ
خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ
كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) [النور:55] ، وقال تعالى : (
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا
الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ) [الحج:40-41] ، وقال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد:7] . وقد جعل الله هذا التدافع مصلحة للأرض، فلو توقف لحظة لفسدت الأرض، كما قال الله تعالى : ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ ) [البقرة:251]
؛ وذلك أن هذه الدنيا دار عملٍ ولا جزاء، وقد جعل الله فيها هذا الصراع
فلو تغلب الحق على الباطل لم يكن للدنيا معنىً؛ لأن أهلها قد نجحوا في
الامتحان فينبغي أن ينقلوا إلى الجنة، ولو تغلب أهل الباطل على الأرض فلم
يبقَ للحق صولة ولا صوت، لحلَّ على أهل الأرض سخط الله ومقته، كما يحل في
آخر الزمان إذا لم يبقَ في الأرض إلا حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله
باله، فعليهم تقوم الساعة، وفي ذلك يقول الأنبياء في حديث الشفاعة: (إن ربي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله). فلذلك مصلحة هذه الأرض في وجود هذا الصراع، ولا شك أن هذا الصراع من طبيعته أن الأيام يداولها الله بين الناس، كما قال تعالى : (
وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )
[آل عمران:140-141] . وتلك المداولة تقتضي أن تكون للباطل صولة، ولكنه
سرعان ما يضمحل ويتراجع فلا تدوم صولته، لكنها قد تطول بحسب ما هو مصلحة
لأهل الأرض في ذلك الطور، ولا يعلم ذلك إلا الله سبحانه وتعالى وحده بحكمته
البالغة، وقد طالت صولة الباطل في أيام نوح عليه السلام ألف سنة إلا خمسين
عاماً، ولا تزال صولات الباطل بعد ذلك في مدٍّ وتراجع: تطول أحياناً وتقصر
بحسب حكمة الله تعالى، وما علمه في أزله وأراده لخلقه، لكن من المعلوم أن
النتيجة محسومة بعلم الله السابق، وأن العاقبة للمتقين على كل حال .
الفصل الثاني
أهداف الدعوة
أما أهداف الدعوة : فلها هدفان كبيران : ......
الاول . المعذرة إلى الله تعالى
أولهما :
المعذرة إلى الله سبحانه وتعالى بفعل ما أمر به؛ لأننا مكلفون متعبدون
بهذه الدعوة، وهي من صميم تكليفنا وعبادتنا لله، حتى لو أيقنَّا أنه لا
يستجاب لدعوتنا، فإن ذلك لا يمنع القيام بها، بل لابد أن نؤديها كما أمر
الله سبحانه وتعالى، ونتعبد الله سبحانه وتعالى بها؛ ولهذا فإن نوحاً عليه
السلام مع طول المدة لم ييئس ولم يقنط، ولم يتراجع، بل استمر على منهجه
يغير من أساليب الدعوة بحسب الأحوال، فلذلك قال فيما حكى الله عنه : (
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ
يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ
لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ
لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ
غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ
بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً ) [نوح:5-14] . فنوَّع الأساليب باعتبار أحوال قومه، وصبر على أذاهم، واستمر في دعوته، ومع هذا قال الله تعالى : ( وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ )
[هود:40] ، وليس ذلك راجعاً إلى أنه فشل في دعوته، أو لم ينوع الأساليب أو
قصر بل قد نجح غاية النجاح، وبذل قصارى جهده، وشهد الله له بذلك، وسيشهد
له به محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته يوم القيامة، لكن أراد الله ألا
يستجاب لدعوته على مستوى واسع في ذلك الزمان، ثم يرفع الله قدره بأن يجعله
أباً للبشر، فلو استجاب له الناس إذاً لم يكن نوحٌ أبا البشر؛ لأن البشر قد
انتشروا وكثروا إذ ذاك من سلالات متنوعة، فلا يمكن أن يكون أبا البشر إلا
بذلك الطوفان المهلك للجميع، ولا يأتي الطوفان مهلكاً للجميع إلا إذا قلَّ
أتباع نوحٍ من الناس .
الثاني . رجاء استجابة الناس للدعوة ونصرتها
الهدف الثاني :
لعل الناس يستجيبون لهذه الدعوة فيخرج الله منهم من ينصر دينه، ويعلي
كلمته ويلتزم بأوامره، ويتقيد بحكمة إنزاله إلى الأرض، إنما خلق الله الإنس
والجن؛ لعبادته، وإنما أنزل الله آدم وذريته إلى هذه الأرض؛ لتحقيق
الاستخلاف فيها، ولا شك أن بعض الناس أوتي ملكة التأثير في بعض، وأن كثيراً
من الذين انحرفوا عن الطريق إنما انحرفوا بتأثير غيرهم عليهم، ولهذا فإن
الذين استكبروا والذين استضعفوا يختصمون يوم القيامة في النار، ( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ) [سبأ:31] ؛ لأنهم اتبعوهم في غوايتهم. وهذان الهدفان جاء التصريح بهما في سورة الأعراف في قول الله تعالى: (
وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ
يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ
بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ
تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً
شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) [الأعراف:163-164] ، (معذرة إلى ربكم) هذا الهدف الأول، (ولعلهم يتقون) هذا الهدف الثاني .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
يتبع إن شاء الله تعالى ...