بعـتـني إلى قـوم سـوء !!!
وقفت
متعجباً أمام هذه العبارة لتلك الجارية التي فاقت كثير من الحرائر وقفت
وقفة إجلال وتعظيم أمام هذا الميزان التي وزنت به الناس الذين خالفوها فيما
اعتادته ودوامت عليه عند سيدها الأول تلك جارية الحسن بن صالح، لما باعها
لقوم وأخذوها عندهم فكانت إذا صلت العشاء افتتحت الصلاة، تصلي ربما إلى
الفجر، وتقول لأهل الدار: يا أهل الدار! قوموا فصلوا، فيقولون لها: نحن لا
نقوم إلا الفجر فجاءت إلى الحسن بن صالح تشتكي وقالت له : بعتني إلى قوم
سوء ينامون الليل كله، أخاف أن أكسد! ردني ردني فرأف بها وردها .
سبحان الله
قوم سوء عندها لأنهم ينامون الليل كله!!!
تخاف أن تكسد ( تفسد وتبور ) لتركها قيام الليل !!!
سبحان الله
لو نظرت تلك الجارية في حرائر اليوم ماذا تقول؟!
لو نظرت تلك الجارية لرجال اليوم ماذا تقول؟!
لو نظرت تلك الجارية ( الحرة الأبية ) لأُسر الواقع المتحضر ماذا تقول؟!
ليس العجب ممن انتكس كيف كيف انتكس ولكن العجب ممن ثبت كيف ثبت!
فكم
نضيع من الفروض وكم نضيع من الواجبات فضلا عن المستحبات آه على واقعٍ ضاعت
فيه الحسنات وتضاعفت فيه السيئات وأصبح الدينار والدرهم ميزان كثير من
الناس فأصبحت المادية سائدة والرأسمالية متأسدة فالأفراد مع بعضهم يتعاملون
بالمصالح فعلى قدر ما تعطي على قدر ما تأخذ يفضلون الأعمال المادية على
الأعمال الدينية حتى في معاملاتهم لربهم وخالقهم وميزانهم هذا إلى زوال
فإذا ماتوا انتبهوا .....
أما سلفنا ومن صار على نهجهم واتبعهم بإحسان
يقتفون أثر نبيهم صلى الله عليه وسلم وعلموا أن المداومة على العمل الصالح
غاية حث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بل هي أحب الأعمال إليه صلى الله
عليه وسلم فليس كثرة العبادة غاية بل الاستمرار والمداومة هي الغاية.
فعَنْ
عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصِيرٌ وَكَانَ يُحَجِّرُهُ مِنْ اللَّيْلِ فَيُصَلِّي
فِيهِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلَاتِهِ وَيَبْسُطُهُ
بِالنَّهَارِ فَثَابُوا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ
عَلَيْكُمْ مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ
حَتَّى تَمَلُّوا وَإِنَّ أَحَبَّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دُووِمَ
عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ رواه البخاري ومسلم
قال
النووي: وَفِي هَذَا الْحَدِيث كَمَال شَفَقَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَرَأْفَته بِأُمَّتِهِ ; لِأَنَّهُ أَرْشَدَهُمْ إِلَى مَا
يُصْلِحهُمْ وَهُوَ مَا يُمْكِنهُمْ الدَّوَام عَلَيْهِ بِلَا مَشَقَّة
وَلَا ضَرَر فَتَكُون النَّفْس أَنْشَطَ وَالْقَلْب مُنْشَرِحًا فَتَتِمّ
الْعِبَادَة , بِخِلَافِ مَنْ تَعَاطَى مِنْ الْأَعْمَال مَا يَشُقّ
فَإِنَّهُ بِصَدَدِ أَنْ يَتْرُكهُ أَوْ بَعْضه أَوْ يَفْعَلهُ بِكُلْفَةٍ
وَبِغَيْرِ اِنْشِرَاح الْقَلْب , فَيَفُوتهُ خَيْر عَظِيم , وَقَدْ ذَمَّ
اللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى مَنْ اِعْتَادَ عِبَادَة ثُمَّ أَفْرَطَ
فَقَالَ تَعَالَى : { وَرَهْبَانِيَّة اِبْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا
عَلَيْهِمْ إِلَّا اِبْتِغَاء رِضْوَان اللَّه فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ
رِعَايَتهَا } وَقَدْ نَدِمَ عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن الْعَاصِ عَلَى
تَرْكه قَبُول رُخْصَة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
تَخْفِيف الْعِبَادَة وَمُجَانَبَة التَّشْدِيد .
وَفِي الحديث أيضاً
الْحَثّ عَلَى الْمُدَاوَمَة عَلَى الْعَمَل وَأَنَّ قَلِيله الدَّائِم
خَيْر مِنْ كَثِير يَنْقَطِع , وَإِنَّمَا كَانَ الْقَلِيل الدَّائِم
خَيْرًا مِنْ الْكَثِير الْمُنْقَطِع ; لِأَنَّ بِدَوَامِ الْقَلِيل تَدُوم
الطَّاعَة وَالذِّكْر وَالْمُرَاقَبَة وَالنِّيَّة وَالْإِخْلَاص
وَالْإِقْبَال عَلَى الْخَالِق سُبْحَانه تَعَالَى , وَيُثْمِر الْقَلِيل
الدَّائِم بِحَيْثُ يَزِيد عَلَى الْكَثِير الْمُنْقَطِع أَضْعَافًا
كَثِيرَة . قَوْله : ( وَكَانَ آلُ مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ ) أَيْ لَازَمُوهُ
وَدَاوَمُوا عَلَيْهِ .
وهذا حال بعض جواريهم فما بالك بالحرائر منهم
فهذا الحسن بن صالح ( سيد تلك الجارية ) وأخوه وأمهما قد جزؤوا الليل ثلاثة
أجزاء، فكل واحد يقوم ثلثا، فماتت أمهما، فاقتسما الليل، ثم مات علي، فقام
الحسن الليل كله .
يحيون ليلهـم بطاعـة ربهـم *** وعيونهم تجري بفيض دموعهم
في الليل رهبان وعند جهادهـم *** بوجوههم أثر السجـود لربهـم
بتـلاوة وتضـرع وســؤال *** مثل انهمـال الوابـل الهطَّـال
لعدوهم مـن أشجـع الأبطـال *** وبها أشعـة نـوره المتلالـي
ودخل الحسن بن صالح يوما السوق،فرأى هذا يخيط، وهذا يصبغ، فبكى وقال: انظر إليهم يتعللون حتى يأتيهم الموت.
وهذا
زين العابدين علي بن الحسين: كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدق
به، ولما مات وغسلوه جعلوا ينظرون لآثار سوادٍ في ظهره، قالوا: ما هذا؟
فقيل: كان يحمل جراب الدقيق ليلاً على ظهره، يعطيه فقراء أهل المدينة، كان
أناس يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما
كان يأتيهم في الليل.
وهذا داوود بن أبي هند كانت زوجته تُعِدُّ
طعام الإفطار في الصباح، فينوي الصيام، ويأخذ الطعام معه إلى الدكان،
فيتصدق به في الطريق، ثم يرجع إلى أهله عند المغرب، فيفطر هنالك لا يظنون
إلا أنه مفطر في النهار.
حتى في أشد المواقف وأصعبها كانو لا
يتركون عبادة اعتادوها فهذا عَلِيٌّ بن أبي طالب رضي الله عنه لم يترك وصية
النبي صلى الله عليه وسلم له حتى أثناء المعركة فقد ثبت أَنَّ فَاطِمَةَ
رضي الله عنها اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى فِي يَدِهَا وَأَتَى
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ
تَجِدْهُ وَلَقِيَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَأَخْبَرَتْهَا فَلَمَّا
جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ
عَائِشَةُ رضي الله عنها ِمَجِيءِ فَاطِمَةَ رضي الله عنها إِلَيْهَا
فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ
أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْنَا نَقُومُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى
وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِهِ عَلَى صَدْرِي ثُمَّ قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكُمَا
خَيْرًا مِمَّا سَأَلْتُمَا إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَنْ
تُكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا
وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ فَهْوَ خَيْرٌ لَكُمَا
مِنْ خَادِمٍ قَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنها مَا تَرَكْتُهُ مُنْذُ
سَمِعْتُهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ
وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ قَالَ وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ. رواه مسلم
وهذا
أحد عيون المسلمين الساهرة كان يحرس جيش المسلمين في الليل فرمي بسهم وهو
يصلي فانتزعه ومضى في صلاته ثم رمي بسهم آخر فانتزعه ومضى في صلاته ثم رمي
بثالث فأيقظ صاحبه فقال له : هلا أيقظنتني من السهم الأول فقال له : كرهت
أن أقطع صلاتي ولولا خوفي على انكشاف المسلمين لما قطعتها ولمضيت فيها حتى
تخرج روحي !!!
وهذا أبو يوسف- تلميذ أبي حنيفة- وهو في مرض الموت
زاره تلميذه إبراهيم بن الجراح: يا إبراهيم! ما تقول في مسألة؟ قال: في مثل
هذه الحالة وأنت في النزع!! قال: ولا بأس بذلك ندرس لعله ينجو به ناج، ثم
قال: يا إبراهيم! أيهما أفضل في رمي الجمار: أن يرميها ماشياً أو راكباً؟
قلت: راكباً، قال: أخطأت، قلت: ماشياً، قال: أخطأت، قلت: قل فيها- يرضى
الله عنك-، قال: أما ما كان يوقف عنده للدعاء في الجمرة الأولى والثانية
فالأفضل فيها ماشياً، وأما ما كان لا يوقف عنده- أي الجمرة الأخيرة الكبرى-
فالأفضل أن يرميه راكباً، ثم قمت من عنده، فما بلغت باب الدار حتى سمعت
الصراخ عليه، وإذا هو قد مات - رحمه الله-
هذا حالهم فماذا نفعل
أنا وأنت هل نقرأ تلك السطور ثم ننساها أم لنا معها وقفة عملية واقعية فكل
منا لا بد أن يحافظ على ما اعتاده من طاعة وعمل الصالح ومن انقطع فليواصل
فعملك هو رأس مالك في قبرك وعند ربك وليختر كلٌ منا ما يستطيع المواظبة
عليه فقد يجد صعوبة في البداية وفي المواصلة إلا أنه لو دفع نفسه الأمارة
بالسوء لتلذذ بما يؤدي من عبادة وطاعة فعن أحد السلف قال: جاهدت نفسي على
قيام الليل عشرين سنة وتلذذت به عشرين سنة ...
نسأل الله البر والتقوى ومن العمل ما يرضى ونصلي ونسلم على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بعـتـني إلى قـوم سـوء !!!