إشراقات النفس اللوامة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
إشراقات النفس اللوامة
(لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) [القيامة: 1-2]
قال الحسن البصري: "إن المؤمن والله ما تراه إلا يلوم
نفسه: ما أردت بكلمتي؟ ما أردت بأكلتي؟ ما أردت بحديث نفسي؟ وإن الفاجر
يمضي قدماً ما يعاتب نفسه" القرطبي، وروى ابن جرير عن سعيد بن جرير: "تلوم
علي الخير والشر"، وقال علي بن أبي نجيح عن مجاهد: "تندم علي ما فات وتلوم
عليه".
ويقول سيد قطب - رحمه الله - في ظلال القرآن: "فهذه
النفس اللوامة المتيقظة الخائفة المتوجسة التي تحاسب نفسها، وتتلفت حولها،
وتتبين حقيقة هواها، وتحذر خداع ذاتها، هذه النفس هي الكريمة علي الله حتى
ليذكرها مع القيامة".
والنفس اللوامة هي النفس اليقظة، وهذه اليقظة هي التي
تكشف لصاحبها سنة الغفلة عن قلبه، فيرى في ضوء تلك اليقظة طريق الجنة،
ويندم علي ما فاته (أن تقول نفس يا حسرتى علي ما فرطت في جنب الله) [الزمر:
56]، فتنكشف له نعم الله تعالى عليه فيشعر بأنه لا قيمة له بدون تلك
النعم، فتنكسر تلك النفس التي تقاعست وفاتها ما فاتها فتستدركه.
(ونفس وما سواها* فألهمها فجورها وتقواها) [الشمس: 7-8]
أي: خلقها الله تعالى سوية مستقيمة علي الفطرة القيمة، وقال صلى الله عليه
وسلم: يقول الله تعالى: ((إني خلقت عبادي حُنفاء فجاءتهم الشياطينُ
فاجتالتهم عن دينهم)) صحيح مسلم، وعن ابن عباس قال: "إذا مر رسول الله بتلك
الآية (ونفس وما سواها)، وقف ثم قال: ((اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها
ومولاها، وخير من زكاها)) الطبراني.
وإصلاح النفس من الدعامات الأساسية في بناء المجتمع،
فإذا لم تُصلح النفوس سادت الفتن في كل زمان ومكان (إن الله لا يغير ما
بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11].
الإعجاب بالنفس
لغة: الاستحسان، أو الزهو والإكبار.
اصطلاحاً: السرور والفرح بالنفس بما يصدر عنها من أقوال
وأفعال، وإذا كان هناك تجاوز وتعد إلي الآخرين من احتقار وترفع وتكبر علي
الآخرين فهو الكبر والغرور، وهو من أعتى أعداء النفس (سأصرف عن آياتي الذين
يتكبرون في الأرض بغير الحق) [الأعراف: 146].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة من كان في
قلبه مثقال ذرة من كبر)) رواه مسلم، أحمد، أبو داود، الترمذي، ابن ماجه
وابن حبان.
قال سفيان بن عيينة - رحمه الله -: "من كانت معصيته في
شهوة، فارجو له التوبة فإن آدم - عليه السلام - عصى مشتهياً فغُفر له، فإن
كانت معصيته من كبر، فأخشى عليه اللعنة، فإن إبليس عصى مستكبرا فلُعن".
ولينتبه القارئ الكريم: بعض الناس يبالغ في إظهار الذلة
والمسكنة، فإن اعتزاز المسلم بدينه وبنفسه هو كبرياء الإسلام والإيمان،
فالكرامة أبرز ما يميز المؤمن، والكرامة لا تكون إلا في التقوى، والعزة لا
تكون إلا في طاعة الخالق.
أسباب الإعجاب بالنفس:
* من أخطر الأسباب جهل الشخص بحقيقة النفس، وأنها خُلقت
من ماء مهين، وأن الكمال لله وحده - سبحانه - وتعالى، وأنها بدون معية الله
تعالى وفضله لا تساوي شيئاً يُذكر (ألم نخلقكم من ماء مهين) [المرسلات:
21].
* الوقوف عند النعم ونسيان من أنعم؟ كما فعل قارون (إنما
أُوتيته علي علم عندي) [القصص: 78]، فيعتقد الإنسان أنه بلغ الغاية بنفسه
وقدرته والعياذ بالله وينسى (وما بكم من نعمة فمن الله) [النحل: 53].
* المبالغة في التوقير أو الانقياد: كتقبيل الأيدي،
والوقوف عند حضوره، فيعتقد أنه يتميز عن الآخرين وأنه يستحق أكثر من ذلك،
وهذا سر الحديث: قال صلى الله عليه وسلم: ((من أحب أن يتمثل له الرجال
قياما فليتبوأ مقعده من النار)) أخرجه أبو داود، أو قد يلقي من البعض
انقيادا فيه إفراط.
* عراقة النسب: وربما يحمله ذلك علي الشعور بالتميز عن
الآخرين ناسيا قول الحق تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ
ولا يتساءلون) [المؤمنون: 101].
* النشأة والتربية: قد ينشأ الشخص بين أبوين أو أحدهما،
فيه حب النفس والشعور بالتميز عن الغير، فلا بد للآباء أن ينتبهوا، أن ما
يغرسونه اليوم سوف يجنوه في الغد، وأن الله تعالى مُحاسبهم عن أماناتهم
وفلذة أكبادهم.
* المدح الكثير الذي لا يلتزم بالحدود الشرعية: وهذا
السر في ذمه صلى الله عليه وسلم للمبالغة في المدح في الوجوه فقال صلى الله
عليه وسلم: ((إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة، فليقل: أحسب فلاناً
والله حسيبه، ولا أزكي علي الله أحدا.. أحسبه.. إن كان يعلم ذلك.. كذا
وكذا" أخرجه البخاري.
حقيقة النفس
وحتى تكون النفس البشرية نفس حية، نفس لوامة... فلا بد
لها أن تقف عند حقيقتها ودوافعها، يقول الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله -
في كتاب (صور وخواطر): "متى تعرف نفسك يا أخي وأنت من حين تُصبح إلي حين
تنام مشغول عنها؟ متى تعرف نفسك وأنت لا تحاول أن تخلو بها ساعة كل يوم
تُفكر فيها؟ متى تعرف نفسك وأنت أبدا تُفكر في الناس كلهم إلا نفسك؟ تقول
[أنا] فهل خطر علي بالك مرة واحدة أن تسأل نفسك [من أنا؟]" انتهى.
مخاطر الإعجاب بالنفس:
* الحرمان من توفيق الله تعالى ومعيته للعبد، فهو لا يرى إلا نفسه، فينسى خالقه الذي أنعم عليه بكل النعم.
* الضعف التام في مواجهة المحن، فهو سريع الانهيار، فلقد
نسي الله في الرخاء، قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس: ((احفظ
الله تجده أمامك، تعرف إلي الله في الرخاء، يعرفك في الشدة" أخرجه أحمد.
* تخلي الآخرين عنه، وأحياناً البغض له، فببغض الله
أبغضه الملائكة ثم يوضع البغض له في الأرض كما في الحديث ((ثم ينادى في أهل
السماء: إن الله يبغض فلانا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء
في الأرض)) أخرجه البخاري.
ولنعلم أن قدر الله تعالى ينفذ في الإنسان من خلال ما
يفعله بنفسه (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) [الرعد: 11]
فتربية النفس وإعدادها يحتاج لصبر طويل، والتوجه إلي الله تعالى وحده.
متى تكون النفس لوامة؟
* المُحاسبة: محاسبة النفس أولا بأول حتى يسهل علاج
عيوبها من البداية، فقدر الله تعالى ينفذ في الإنسان من خلال ما يفعله
بنفسه وقد أوصي - سبحانه - وتعالى بمحاسبة النفس (ولتنظر نفس ما قدمت لغد)
[الحشر: 18].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن والإيمان كمثل
الفرس في آخيته يجول ثم يرجع، وهكذا المؤمن يسهو ثم يرجع إلي إيمانه)) رواه
أحمد.
وما أصدق قول عمر - رضي الله عنه -: "حاسبوا أنفسكم قبل
أن تُحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن تُوزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدا
أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر، (يومئذٍ تعرضون لا تخفى
منكم خافية)".
قال مالك بن دينار: "رحم الله عبدا قال لنفسه: ألست
صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم ذمها، ثم ألزمها كتاب الله - عز وجل - فكان
لها قائدا".
* الاستغفار: بعد أن يحاسب الإنسان نفسه عليه أن يجمع
مخالفاته ونقائصه ويدونها أمام عينيه، ومهما كانت تافهة أو يراها من
الصغائر، يستغفر الله عليها، ويدعو بسيد الاستغفار: ((اللهم أنت ربي لا إله
إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر
ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت)) رواه البخاري.
* مجاهدة النفس بالطاعات، وذكر الله - تعالى - ورجاء
القبول: من الأعمال التي تسمو بالنفس لتصل لنفس لوامة، المحافظة علي
الطاعات من صلاة وصوم وزكاة ونوافل وأروعها وأقواها تأثيراً في النفس قيام
الليل (إن ناشئة الليل هي أشدّ ُوطئاً وأقومُ قيلاً) [المزمل: 6].
يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - في ظلال القرآن:
"وإن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفاسفها،
والاتصال بالله وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل
القرآن والكون ساكن، كأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب معه أرجاء
الوجود في لحظة الترتيل بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته
وإيحاءته وبإيقاعاته في الليل الساجي، إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول
الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول - صلى الله عليه
وسلم -، وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق
الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا
الطريق المنير".
قال صلى الله عليه وسلم: ((المجاهد من جاهد نفسه في طاعة
الله)) رواه أحمد، (وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة
هي المأوى) [النازعات: 40- 41].
وحينما قالت السيدة عائشة - رضي الله عنها - عن قوله
تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلي ربهم راجعون)
[المؤمنون: 60]، إنهم الذين يزنون ويسرقون قال النبي صلى الله عليه وسلم:
((لا يا بنت الصديق، بل هم الذين يُصلون، ويُزكون، ويخافون ألا يُتقبل
منهم)) رواه أحمد.
* ذكر الموت: ومن منا لن يُطاله الموت (كل نفس ذائقة
الموت) [آل عمران: 185]، ولكن الفارق الكبير بين من يتذكره ليعمل له، وبين
اللاهي العابث الذي يظن أن الحياة تستمر ولا تتوقف (وما هذه الحياة الدنيا
إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان) [العنكبوت: 64]، فلا بد من
التفكر في الموت، والمنازل التي تليه من شدائد قال صلى الله عليه وسلم:
((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت)) أخرجه الترمذي، وقال الربيع بن
خيثم: "ما غائب ينتظره المؤمن خيراً له من الموت".
* قصر الأمل: قال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر -
رضي الله عنه -: ((إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث
نفسك بالصباح، وخذ من حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فإنك يا عبد الله ما
تدرى ما أسمك غدا)) رواه البخاري، وطول الأمل بسبب الجهل، فإذا كان الإنسان
شابا يستبعد قرب الموت، وقد يستبعده لصحته مع أن المرض فجأة ليس ببعيد،
وكذلك حب الدنيا إذا رسخ حبها في قلبه، امتنع قلبه عن التفكر في الموت قال
صلى الله عليه وسلم: ((لا زال قلب الكبير شابا في اثنتين: حب الدنيا، وطول
الأمل)) أخرجه البخاري.
* تعريض النفس أحياناً لبعض المواقف التي تقتل كبريائها،
والتأسي بالصحابة والتابعين في ذلك: رُوي عن عمر - رضي الله عنه -: "أنه
لما قدم الشام استقبله الناس، وهو على بعيره، فقيل له: لو ركبت برذوناً
تلقى به علماء الناس ووجوهَهُم؟ فقال عمر: "لا أراكم هاهنا، إنما الأمر من
هاهنا- وأشار بيده إلي السماء خلوا سبيل جملي" [مختصر منهاج القاصدين]، فمن
الممكن أن يقوم الإنسان بخدمة من هو أقل منه، أو أن يشترى حاجياته بنفسه
ويحملها ولو تعود على استقلال السيارة وخدمة الآخرين له..، وها هو عمر بن
عبد العزيز - رضي الله عنه - فقد قدمت امرأة من أقاصي إيران لتقابله،
وتوقعت أن تدخل له في قصر من القصور الفارهة، فدلوها على دار بسيطة، ووجدت
رجلا يقيم جدار بجواره امرأة فقالت لها: ألا تحتجبين من هذا الطيان؟ قالت:
إنه أمير المؤمنين، وكانت تلك التي تناوله الطين بنت الخليفة وزوجة الخليفة
وأخت الخلفاء.. من؟ إنها فاطمة بنت عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين،
وهى أغنى وأجمل نساء عصرها؟، لكنها النفس..، النفس اللوامة التي تعرف
قدرها، وإن تميزت عن جميع البشر إلا إنها تعرف أنها لا قيمة لها بدون رضاء
الله عنها، هذه النفس المتميزة التي لا تعالى فيها، ولا تشعر بتميزها إلا
بإيمانها ورجوعها الدائم إلي الحق.
* حضور مجالس العلم والذكر والارتواء من مناهلها، والمداومة على تلاوة القرآن الكريم، وتعلم أحكامه، والوقوف عند معانيه.
* زيارة المرضى على الأسرة البيضاء، وذوى العاهات والاحتياجات، ودور الأيتام، وزيارة القبور من حين لآخر، وحضور التغسيل والدفن.
* وأولاً وآخراً: الاستعانة بالله تعالى، ومداومة التفكر
في خلقه، والإكثار من الدعاء في أوقات الاستجابة؛ بأن يهدي الله نفسه،
ويجعلها من النفوس الفائزة برضوانه تعالى.
وصدق قول الشاعر:
ألا يا نفس ويحك ساعديني بسعي منك في ظلم الليالي
لعلك في القيامة أن تفوزي بطيب العيش في تلك العلالي
فاللهم يا عالماً بحالنا، ومطلعا على سرائرنا ونياتنا؛ اقضي جميع حاجاتنا، واغفر ذنوبنا وسيئاتنا، وسامحنا فيما مضى.
لا إله إلا أنت برحمتك نستغيث، ومن عذابك نستجير، أصلح شأننا كله، ولا تكلنا إلي أنفسنا ولا إلي أحد من خلقك طرفة عين.. آمين.