عنوان السّعادة
عنوان السّعادة
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرغ]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، وأشهد أن لا إلا
الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه
بلغ الرسالة وأدى والأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، صلى الله
وسلم وبارك على نبينا ومحمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأسأل
الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني وإياكم من أهل الدرجات
العلى، وأن يجعلنا من المقبولين، وأن ينمي لنا قاصر أعمالنا، وأن يعفو عن
زللنا وعن سيئاتنا، ونعوذ بالله من فتنة القول، كما نعوذ به من فتنة العمل،
كما نعوذ به من فتنة الشهرة، كما نعوذ به من سائر الفتن المضلة ما ظهر
منها وما بطن، اللهم فأعذنا.
هذا الشهر -شهر رمضان- شهر كريم، فضّله
الله جل وعلا وميزه على أشهر السنة بأنواع من الفضل والمزية، فجعل الصيام
مختصا به، وجعل من صامه إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه، وجعل
قيام ليله مكفرا للذنوب «من قام رمضان اسم واحتسابا غرف له ما تقدم من
ذنبه»، وجعل له العمل الصالح مضاعفا وجعل فيه ليلة القدر التي من أدركها
فقد أدرك حظا عظيما كثيرا، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما
تقدم من ذنبه، وخصه جل جلاله بأن عمرة فيه تعدل حجة، وهذا من فضل الله عظيم
الذي خصّ به هذا الشهر الكريم ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ
مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا
يُشْرِكُونَ?[القصص:68]، يختار ما يشاء من الأمكنة فيجعله مباركا، ويختار
ما يشاء من الأزمنة فيجعله مباركا، ويختار ما يشاء من البشر فيجعلهم رسلا
?اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ?[الحج:75]
وبهذا
فإن من بركات هذا الشهر الكريم التي تعود على المؤمن أن يكون قلبه خاشعا
خاضعا منيبا متذكرا ربه جل وعلا ومتذكرا حقوق ربه جل وعلا؛ باحثا بحثًا
جادا، وساعيا سعيا حثيثا عمّا به يسعد في الدنيا والآخرة ?وَأَمَّا
الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ?[هود:108]، وقال قبلها ?فَأَمَّا
الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ?[هود:106]، فمن سُعد فهو السعيد، ومن شقي
ببطن أمه فهو الشقي.
لهذا من أعظم ما يبحث عنه المؤمن أن يبحث عما به
يكون سعيدا في الدنيا والآخرة عن أسباب السعادة وعن علامة السعادة وكلٌّ
يبحث عن هذا العظيم.
وعنوان السعادة وعلامة السعادة أن يجمع المرء بين
ثلاثة أشياء بين الشكر والصبر والاستغفار، الشكر على العطية، والصبر على
البلية، والاستغفار عن الخطية، ولهذا قال إمامنا رحمه الله تعالى في رسالته
القواعد الأربع:
أسأل الله أن يجعلني وإياك ممن إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر، وهذه الثلاث عنوان السعادة.
فلنتأمل هذه الثلاث مسائل:
* من إذا أعطي شكر.
* ومن إذا ابتلي صبر.
* ومن إذا أذنب استغفر.
وتلحظ أن هذه الثلاثة جمعت الذين كله.
إذا أعطي شكر
أما
الأولى: فإن العبد إذا أعطاه الله جل وعلا فإن علامة سعادته أن يكون شاكرا
قال سبحانه ?وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ
وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ?[إبراهيم:7]، وقال أيضا جل
وعلا ?وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ
لَظَلُومٌ كَفَّارٌ?[إبراهيم:34]، يعني يكفر نعمة الله بأن لا يشكر الله
على نعمته.
والشكر واجب على أنواع النعم؛ أن يشكر العبد إجمالا وأن يشكر
تفصيلا، فأمر الله جل وعلا بشكره في مواضع كثيرة من القرآن وبسنة النبي
عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كذلك، قال سبحانه ?وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ
تَكْفُرُونِ?[البقرة:152] وقال جل وعلا ?أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ
إِلَيَّ الْمَصِيرُ?[لقمان:24] ونحو ذلك، فالشكر عبادة عظيمة واجبة.
ولاشك
أننا إذا تأمل كل منا في حاله وجد أن نعم الله جل وعلا عليه صباح مساء،
حتى في نومه ثم نعم قد لا يدركها وقد يدرك بعضها، وحتى في بيقضته وفي أهلاه
وفي مسيره وفي تنقله، وفهو يتقلب في نعم لا تحصى.
وأعظم هذه النعم
وأجلها النعمة التي بها النجاة من النار والفوز بالجنة ? فَمَن زُحْزِحَ
عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ?[آل عمران:175].
فإذن نِعم الله جل وعلا إذا كانت تطرى متتابعة فواجب على العبد أن يشكر الله جل وعلا على نعمه.
فهنا سؤال: كيف يكون الشكر؟ وما موارد الشكر؟ وبم يكون العبد شاكرا؟
الشكر:
? يكون باللسان.
? ويكون بالجوارح؛ يعني بالأعضاء.
? ويكون بالقلب.
فالشكر له ثلاثة أركان، من اجتمعت في حقه كان شاكرا تام الشكر:
* أن يكون شاكرا بقلبه.
* شاكرا بلسانه.
* شاكرا بعمله.
أما
شكر القلب فأن يعترف العبد لله جل وعلا بأنّه هو الذي أسدى النعم، وهذه قد
تفوت بعض الناس، فيظن أن النعم جاءته من جرّاء عمله، أو من جراء جهده، كما
قال الأول الهالك ?إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي?[القصص:78]،
وهذه يأتي الشيطان إلى العبد بها فيقول: اجتهدت فحصلت كذا، وفعلت فحصلت
كذا. فينسب ما جاءه من النعم وما حصله من الخيرات؛ ينسب ذلك إلى نفسه،
والله جل وعلا هو الذي أعطاه ولو منعه سبحانه لما حصل شيئا.
إذن شكر
القلب أن يعترف العبد بالنعمة باطنا بأن الله جل وعلا هو الذي أعطى، من
الذي أعطانا الأمن والطمأنينة في هذه البلاد؟ ربنا جل وجلاله، من الذي آلف
بين قلوب الناس ووحد قلوب أهل الإيمان؟ ربنا جل وعلا ?لَوْ أَنفَقْتَ مَا
فِي الأَرْضِ جَمِيعاً? وهو النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
?وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً
مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ
بَيْنَهُمْ?[الأنفال:63] فشكر النعمة أن تكون بقلبك في أول مواردها، معتقدا
أنه ما ثَمّ نعمة إلا من الله كما سبحانه ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ
فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ
تَجْأَرُونَ?[النحل:53]، قوله ?وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ?
يقول أهل العلم: إن هذا تنصيص صريح في العموم لا يخرج عنه فرد من أفراده.
يعني أنه ليس ثَم نعمة إلا وهي من الله جل جلاله.
فإذن اعتراف العبد
واعتقاده بقلبه أن النعمة التي يتقلب فيه إنما هي من الله هذا دليل أن
العبد حاز هذا الركن من الشكر، وهو أنه صار قلبه شاكرا لربه جل وعلا
?ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا
شَكُورًا?[الإسراء:3] شاكرا لله بقلبه، شاكرا لله بلسانه شاكرا لله جل وعلا
بعمله.
إذا كان كذلك، فما الذي يصنعه العباد؟ يصنع العباد بعضهم لبعض
أسباب حدوث النعم، الله جل وعلا أجرى سنته أن الشيء يحصل بشيء ?ثُمَّ
أَتْبَعَ سَبَبًا?[الكهف:89]، الأسباب مُقامة تنتج المسببات، تنتج النتائج،
فالعبد أكرمه الله جل وعلا أن كان سببا في الخير، ولهذا يُشكر الإنسان،
يشكر من عمل خيرا؛ لأن صنع ذلك بمحض اختياره وإرادته، وفي الحقيقة أن الذي
قيَّضه هذا الأمر وأعانه عليه إنما هو ربنا جل جلاله، هو الذي حضه وهو الذي
يسّر ذلك، وهو الذي وفق وهو الذي أعان.
فإذن شكر الله جل وعلا بالقلب
أن نعترف أن الله سبحانه هو الذي أدى هذه النعمة، وهو الذي أعطى العباد،
وأنه ما ثَمّ نعمة إلا من الله جل جلاله، ثم تشكر الناس؛ لأن من لا يشكر
الناس لا يشكر الله جل وعلا؛ لكن الناس أسباب وليسوا بفاعلي النعم ومعطي
النعم من أنفسهم، وإنما الله جل علا هو الذي قيّضه.
والركن الثاني من
أركان الشكر أن يكون العبد شاكرا بلسانه وهذا هو الذي يعيه أكثر المسلمين
من كلمة الشكر؛ يعني أن يقول الحمد لله أن يقول الشكر لله على هذه النعم
ويُثني على الله جل وعلا بلسانه، وهذا نوع من أنواع الشكر كما أحدث الله جل
وعلا لعبد نعمة إلا وهو يستحق شكرا عليها شكر اللسان بأنْ تنسب هذه النعمة
لله جل وعلا، وأن تثني على الله جل وعلا بها وأن تشكر من كان سببا فيها.
فإذن شكر اللسان له ثلاث موارد:
? أن تنسب هذه النعمة لله جل وعلا، لهذا قال بعض العلماء الصالحين: ليس مني شيء، وليس إلي شيء، إنما هو من الله جل جلاله.
? ثم تتحدث بلسانك مثنيا على الله شاكرا الله جل وعلا على النعم.
?
وثالثا ذا كان ثم متسبب في إحداث هذه النعمة والدك تسبب في نعمة إيجادك
وأن منت مسلما موحدا من له فضل عليك من عالم أو مربي أو أخ لك أو إلى آخره،
فتشكر من يستحق الشكر؛ لأن النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ صح عنه
أنه قال «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»؛ يعني من لم يشكر الناس، من أحدث
له نعمة، من تسبّب في نعمة فلم يشكره لم يشكر الله جل وعلا؛ لأنه يكون جاحد
بعض ما أنعم الله جل وعلا به عليه.
الثالث من الشكر أن يكون العبد
شاكرا بعمله، وهذا من أعظم أنواع الشكر، فكل طاعة تُحدثها لله جل جلاله فهي
شكر لله تعالى، وكل قربة تتقرب بها إلى ربك جل وعلا فهي شكر، وأعظم ما
يكون الشكر به الشكر لله جل وعلا بأعظم الحسنات، وهي حسنة التوحيد، فحسنة
لا إله إلا الله محمد رسول الله هذه أعظم أنواع الشكر بالعمل؛ لأن العبد
كان موحدا فقد أتى بأعظم أنواع الشكر العملي ألا وهو التوحيد والتوحيد منه
مورد قلبي.
قال سبحانه في سورة سبأ ?اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا
وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ?[سبأ:13]؛ يعني اعملوا آل داوود عملا
يكون شكرا وقليلٌ من عبادي الشكور بعمله، فالعمل موردٌ من موارد الشكر،
والشكر يكون بالقلب وللسان ويكون بالعمل، فتوحيد المؤمن شكر وصلاة المؤمن
شكر، وتقربه إلى الله بالفرض وبالنفل شكر، تلاوته للقرآن شكر، وهكذا في
أنواع الطاعات، تعامله مع والديه برّه بأهله، صلة الأرحام، وهكذا هذه شكر
لله جل وعلا.
لهذا ينبغي العناية لهذا الأصل العظيم؛ لأن نعم الله جل وعلا تطرى، والسعيد من إذا أعطي شكر:
شكر بقلبه معترفا متذلل لله لأنه هو الذي أسدى هذه النعم.
شكر
بلسانه وتحدث بالنعمة ولم يكتمها، ليس كالذي لا يشكر ليس عندي شيء ولا
أملك شيء فيكتم نعمة الله جل وعلا التي أعطاه، والله سبحانه والله سبحانه
قال ?وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ?[الضحى:11] يعني اشكر الله جل
وعلا على النعمة بلسانك وتحدث بها لا تكتم نعمة الله جل وعلا عليك.
وكذلك شكرك لله جل وعلا على النعم وعلى العطية يكون بأنواع الصالحات.
فإذن
زِن الأمر مع نفسك ما مقدار شكرك لله جل وعلا، فكلما زادت العقيدة في قلب
الموحد زاد شكره، وكلما زاد ثناؤه على الله بلسانه زاد شكره، وكلما قوي
عمله الصالح زاد شكره لله جل وعلا، وكلما كثرت معاصيه قلّ شكره لله جل
وعلا؛ لأن حق الله أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر
جل جلاله.
إذا ابتلي صبر
الأمر الثاني مما به تكون السعادة: أن
العبد إذا ابتلي صبر، ولاشك أنّ العبد لا يخلو من الابتلاء، في أي حال، حتى
في مقامي أنا لا أخلو من الابتلاء، وأنت في مقامك لا تخلو من الابتلاء،
فكل خير أو شر فهو ابتلاء، كما قال سبحانه ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ?[الأنبياء:35]،
?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ?، وقال سبحانه في آية سورة الجن
?وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء
غَدَقًا(16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ?[الجن:16-17]، مع أنهم استقاموا؛ لكن حتى
المستقيم يعطى النعم ويفتن ويبتلى بهذه النعم، ?وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا
عَلَى الطَّرِيقَةِ? يعني على الإسلام على التوحيد على السنة استقاموا على
الطاعة، ما الثواب؟ قال ?لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا? هل هذا الماء
الغدق يكون عن رضا ماء قال ?لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ? يعني ما العلة؟
?لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ?، لهذا قال سبحانه ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ
وَالْخَيْرِ فِتْنَةً? فالسعيد من إذا ابتلي صبر، فكل حال أنت فيها لا تخلو
إما من خير يصاب عليك من ربك جل جلاله وإما من مصيبة تأتيك من الله جل
جلاله والخير والشر مقدر نؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى.
فكيف إذن
سيكون من ابتلي صبر؟ يعني إذا أتته المصيبة صبر عليها وإذا أتته الخيرات
صبر عليها، والمصائب يصبر عليها كثيرون؛ ولكن الصبر على الخيرات، إنما يصبر
عليها يعني على الخير والنعمة أولياء الله، لهذا قال بعض الصحابة: ابتلينا
-يعني في عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ- بالضراء فصبرنا
وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وهذه هي التي تحتاج منا إلى وقفة، ومنك إلى
تأمل وتدبر وحضور قلب، نحن الآن لا نخلوا؛ بل الأكثر أن نعم الله جل وعلا
مُفاضة علينا والخيرات تتابع علينا بأنواع الخيرات، وقس ذلك واعتبره بحال
من على يمينك وشمالك في البلاد وكيف هي أحوالهم وكيف هي حالنا.
إذن ما
بين نعمة وخير يتجدّد فثم عليه صبر، وما بين ابتلاء يأتي بين الحين والآخر؛
إما ابتلاء على فرد، وإما ابتلاء على أسرة، أو ابتلاء على مجتمع، فلابد من
صبر.
أما الصبر على المصايب فإن هذا يأتي الحديث عنه ويطول؛ لكن
الابتلاء بالخير ?وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً? فهذا
يحتاج منك إلى حضور قلب؛ يعني أنّ العبد قد يُحرم الرزق فيكون مطيعا، وقد
يفاض عليه الرزق والمال والجاه فيكون عاصيا وهذا من جرّاء ترك الصبر.
والصبر
كما هو معلوم واجب مطلقا، أمر الله سبحانه بالصبر في مواضع كثيرة
?فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ?[الأحقاف:35]،
?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ?[الروم:60]، ?وَاصْبِرْ?(1) في عدد
من آيات، وهكذا وعد الصابرين بقوله ?إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ
أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ?[الزمر:11].
إذن الصبر بهذه المرتبة
العظيمة، فكيف يصبر العبد على الطاعة؟ كيف يصبر العبد على النعم؟ يصبر
العبد بأن يستعمل النّعم في طاعة الله جل وعلا؛ أن يحاسب نفسه أن لا يكون
متكبّرا على ربّه متكبرا على الدين، ولهذا قال بعض السلف: ما ترك أحد السنة
إلا لكبر في قلبه، ولهذا قد يكون العبد في أنواع من الخيرات فلم يصبر
عليها، استعمل المال في المحرمات، أتاه المال فلم يصبر أن ينتقي المال
المباح وأن يترك المال الحرام، جاءته الشهوات فلم يصبر على الشهوات
المباحة؛ بل تعداها إلى الشهوات المرحمة، جاءه الخير والرزق والبدن الصحيح
المعافى والشباب الذي امتلأ حيوية وامتلأ صحة ونشاطا فلم يستعمله فيما فيه
نفعه في دنياه وفي آخرته؛ إنما استعمله في اللهو والدعة والشهوات المحرمة.
فإذن
ابتلي بخيرات في بدنه وفي ماله وفيما حوله ثم هو استعملها في غير طاعة
الله، ابتلينا بالأمن والطمأنينة ومنّا من لم يرع هذا الأمن وهذه الطمأنينة
فاستغلها في معصية الله جل جلاله، وهكذا وهلم جرّ في أنواع النعم التي لم
يصبر العباد على استعمال الطاعة فيها.
السعيد من إذا ابتلي صبر، والصبر
على الخير؛ الصبر على النعمة أعظم وأشد من أن يصبر العبد على المصيبة؛ لأنه
تأتي المصيبة وربما لم يكن له خيار إلا الصبر؛ ولكن النعمة إذا جاءت
والخير والمال والصحة والنشاط والسفر إلى آخره هذه من يصبر فيها على طاعة
الله.
لهذا قال العلماء الصبر ثلاثة أقسام:
* صبر على الطاعة.
* وصبر عن المعصية.
* وصبر على أقدار الله المؤلمة.
أما
الصبر عن الطاعة والصبر عن المعصية فهذه في حالة الرخاء، إذا أتتك النعم
فاصبر على طاعة الله فإنها علامة السعادة، واصبر على المعصية فإنها علامة
السعادة، والموفق من وفقه الله جل وعلا للاستقامة وللتوبة من الذنب من
الآثام.
النوع الثاني من الصبر من إذا ابتلي صبر؛ يعني من ابتلي بأنواع
البلاء، البلاء بنقص المال، البلاء بحاسد، البلاء بحاقد، البلاء بمرض،
البلاء بتفضيل غيره عليه، البلاء بولد، البلاء بزوجة، البلاء بوالد، الوالد
يبتلى بولده، وهكذا لابد من الصبر قال لنا جل وعلا في سورة الفرقان
?وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ
بَصِيرًا?[الفرقان:20]، ?وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً? فَتَنَ
الله جل وعلا العباد بعضهم ببعض، جعل الولد والزوجة فتنة للوالد، جعل
المال، فتنة جعل الغني فتنة لفقير، وجعل الفقير فتنة للغني، جعل الصحيح
فتنة للسقيم، وجعل السقيم المريض فتنة للصحيح، وهكذا في حال حل البلاء
بالمصايب لابد فيها من الصبر، فَقَدَ المرء صحة من صحته أو ابتلي في حبيب
له بفقده بموته أو ابتلي بمرض في نفسه أو بمن حوله أو بعدم راحة أو بعدم
طمأنينة أو في حرن أو في همّ، كل هذه مصائب تتنوع وهي درجات؛ لكن ما
الواجب؟ من إذا ابتلي صبر.
فكيف يكون الصبر على المصيبة؟
( أولا:
الصبر على المصيبة الصبر الشرعي أن يحبس المرءُ لسانَه عن التشكي، جاءته
مصيبة لا يتشكى؛ لأنه من الذي ابتلاك بهذه المصيبة؟ ابتلاك رب العالمين،
ولهذا تشكو الكريم إلى من؟ تشكو الرب الحكيم إلى من؟ إلى المخلوق! تشكوه
إلى من؟ فالشكوى إذن منافية للصبر.
ولهذا قال العوام عندنا وهي من أثر
تربية العلماء علماء دعوة الإمام المصلح محمد بن عبد الوهاب رحمه الله إذا
أخبر بشيء مما يسوءه قال: إخبار بلا شكوى. يعني أنا أُخبرك إخبارا لأن
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر بحاله، فقال: «أجد رأسي
يألمني»، وقال: «وا رأساه»، وقال: «أجد رجلي تألمني». وقال «هل أنت إلا
إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت» وهكذا، إذن هذا إخبار.
أما الشكوى
التي فيها مرارة يشكو الحال، ويشكو ما فيه بنوع مرارة وتحسر، ويقول في
قرارة نفسه وربما أظهرها: أنا لا أستحق ذلك. كما يقول البعض: هذا ما يستاهل
أو حرام يحصل له هذا الشيء. ونحوها من الألفاظ المنكرة.
إذن العبد إذا
ابتلي صبر أول أنواع الصبر حبس اللسان عن التشكي يحتاج يخبر إخبارا؛ يخبر
الطبيب إخبار، يخبر صديقه إخبار، يخبر أهل هل إخبار، يخبر أهله إخبارا،
يخبر والده إجبارا، هذا من باب الإخبار.
أما الشكوى التي فيها مرارة
القلب وفيها استغراب ما حصل أو ما أستحق ذلك أو أنا لست بأهل لذلك ونحو ذلك
مما قد يخطر على بعض القلوب المريضة، فهذا ينافي الصبر على البلاء.
( القسم الثاني أن يكون صابرا على البلاء بقلبه.
القلب كيف يصبر على البلاء؟ بأن لا يتسخّط العبد.
ولهذا
قال العلماء الصبر أمر به في القرآن فهو واجب وأمر به النبي عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فهو واجب، فالصبر إذن واجب، وإذا كان واجبا؛ فإذن
في داخلك في قلبك عقيدة أنّك تصبر على ذلك بمعنى أنك لا تَسْخَطُه، لا تقل
أنا إيش هذا الذي حصل لي، أنا لا استحق هذا، ونحو ذلك مما فيه تسخط؛ لكن
العبد لا يجب عليه الرضا بما حصل له.
فثَمّ فرق ما بين الصبر على المصيبة وما بين الرضا بالمصيبة.
أما
الرضا بما حصل له فليس بواجب؛ أن يكون راضيا، حصل له بِفَقْدِ لولد له
فيكون قلبه راضيا هذا لا يؤتاه إلا الذين صبروا، هذا لا يؤتاه إلا طائفة
قليلة من الناس، فالعلماء يقولون: الرضا بالمصيبة، الرضا بالمَقضي، ليس
بواجب؛ لكن الصبر واجب، لأن الرضا بالمقضي الرضا بالمصيبة هذا مستحب وليس
بواجب. معنى أنه يقول: الحمد الذي حصل لي هذا الشيء، وهذا فيه خير لي، وأنا
ما أكره هذا الشيء، وهذا شيء طيب، وأرجو من الله جل وعلا أن يكفر عني به
السيئات ونحو ذلك بما فيه الرضا وعدم التسخّط هذا مقام عظيم من مقامات
أولياء الله جل وعلا.
لكن ما الواجب؟ أنْ يكون العبد صابرا بمعنى لا يسخط بقلبه أما رضا القلب بالمصيبة فذلك مستحب وليس بواجب.
(
النوع الثالث للصبر: أن يكون صابرا بجوارحه؛ يعني ما يتصرف تصرف يخالف
الصبر يخالف الشريعة، فالشريعة حرمت إذا جاءت مصيبة الموت الضرب على الخدود
وشق الجيوب وأن يدعو المرء بدعوى الجاهلية وأن ترفع النائحة صوتها، ونحو
ذلك مما فيه حركة جوارح في غير ما أذن به الشرع، فيكون خروجا عن الصبر،
كذلك من رأى أمامه منكرا فعامله بما يوافق هواه ولا يوافق الشريعة فلم يصبر
على الشريعة، لم يصبر على هذا البلاء الذي أمامه، وإنما كان متعبدا لهواه.
وهكذا
في الأوضاع العامة اليوم في المسلمين، ترى الأوضاع كما تعلمون من واقع
اليهود ما يفعلون، ومن واقع كثير من المسلمين، ومن واقع بعض ما يحصل، ومن
كثر المنكرات ومن كثرة الموبقات في عدد من بلاد المسلمين ونحز ذلك فما الذي
يعمل العبد؟ لاشك وجود هذه الأشياء بلاء، وإن تصرف على غير مقتضى الشريعة
وإن أتى بشكوى بلسانه مما يحصل فلم يصبر، فإن تسخط ذلك بقلبه فلم يصبر
فلهذا تسخط ما قضى الله جل وعلا، ولهذا قال الله جل علا لنبينا عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا
يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60]، الذين لا يوقنون
يستخفون بتصرفاتهم وبأفعالهم، يستخفون العبد المؤمن ولابد له من أن يكون
صابرا.
إذن في أي حال من مصائب ذاتية فردية أو أسرية أو في المجتمع من
سلك فيها غير الشريعة وغير ما تقضي به النصوص ويقضي به حكم الشريعة فإنه لم
يصبر على ذلك، ولذلك يفقد السعادة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قال للصحابة «إنكم قوم تستعجلون» لما شكوا إليه من أذى المشركين
قال «والله ليتمن الله هذا الأمر» إلى أن قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ
والسَّلاَمُ «ولكنكم قوم تستعجلون».
فإذن لابد للعبد إذا عرض البلاء
بأنواعه أن يكون صابرا عليه بلسانه، صابرا بقلبه، صابرا بجوارحه، فلا يتصرف
تصرفا خلاف مقتضى الشريعة، فلا يكون حينئذ صابرا؛ بل يكون غير صابر فلم
يمتثل الواجب المفروض وهو الصبر على البلاء.
هنا يأتي: هل معنى الصبر أن
لا يأمر العبد بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا يدعو؟ لا، وبذلك أهل العلم
وأهل البصيرة يعلمون الجمع بين هذا وهذا فهم يصبرون ويفعلون الواجب، لكن
يفعلون الواجب على مقتضى الشريعة ويصبرون على مقتضى الشريعة؛ فتجد أن الهوى
عندهم مرفوع فيما يحدث من الابتلاء ويحكّمون الشرع بتصرفاتهم.
إذن هذان نوعان للصبر هما:
* صبر على الخير على النعمة وهو شديد.
* وصبر على المصيبة وهذا ربما صبر عليه الأكثرون.
إذا أذنب استغفر
أما
الثالث الذي به سعادتنا لو تيقنا وعلمنا به وهو أن العبد إذا أذنب استغفر،
إذا أذنب استغفر، وهل يخلو أحد من ذنب؟ أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان
يدعو في آخر صلاته يقول «اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب
إلا أنت» كلما ارتفع المؤمن درجة في الإيمان كلما خشي وخاف ذنبه، وكلما كان
للاستغفار في لسانه حلاوة.
العبد الذي لا يفقه حق الله جل وعلا ولا
يفقه أحكام الشريعة يقول: أنا ما سويت شيء. لأنّه ما يعرف ما معنى الذنب
ونبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو أكمل الخلق قال له ربه جل
جلاله ?إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ
اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ?[الفتح:1-2]، فإذا كان
كلٌّ منا عرضة لأنواع الذنوب من أقل الصغائر إلى أعلى الصغائر، وربما دخل
بعضا في الكبائر -نسأل الله جل وعلا للجميع السلامة والعافية-؛ فإذن لابد
من ملازمة الاستغفار، بالاستغفار تغسل الذنوب، الاستغفار والتوبة به تمحى
الخطايا، ولابد للعبد من الاستغفار، من لم يستغفر فليس بسعيد، لن يأنس
للقرآن، لن يأنس للطاعة، لن يأنس لما يفعله من الواجبات ولا المستحبات، لن
يأنس بالحياة، أما من كان إذا عمل سيئة سارع في الاستغفار فإنه كما قال
ربنا جل وعلا ?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ
اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ?[هود:114]، وقال نبينا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
«اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» ما
منا أحد وكل يعرف نفسه إلا وله ذنب إما من الصغائر أو من الكبائر، وكل ينظر
إلى هذه الذنوب فلابد أن تحدث لها استغفارا دائما، لهذا النبي عَلَيْهِ
الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ كان يستغفر في المجلس الواحد سبعين مرة وفي اليوم
أكثر من مائة مرة، فيقول «ربي اغفر لي وتب علي» سبعين مرة ومائة مرة.
ولهذا من لزم الاستغفار جعل الله جل وعلا له من كل ضيق مخرجا.
لهذا
أيها المؤمن كل يعلم نفسه، فإذا أردت السعادة الحقة فلا تقرّنّ نفسك على
ذنب، مباشرة بعد الذنب إذا غلبتك نفسك ويجب أن تجاهدك نسك لكن إذا غلبتك
نفسك فسارع بالتوبة بالاستغفار بالبكاء من خشية الله جل وعلا باتباع السيئة
الحسنة؛ يعني بعد السيئة تعمل صالحا بشيء لكي تُمحى تلك السيئة.
إذن علامة سعادة العبد من إذا أذنب استغفر، إذا أذنب استغفر مباشرة تذكر ذنبه يستغفر الله جل وعلا.
ما
أجمع قول ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنْهُ فيما رواه البخاري في صحيحه وغيره
قال: إن المؤمن يرى ذنوبه كالجبل العظيم يخشى أن يقع عليه، وإن المنافق -أو
قال الفاجر- يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا.
وقد ثبت على
النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «إياكم ومحقرات الذنوب
فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه وضرب لذلك مثلا بقوم نزلوا واديا
فتفرقوا فيه فأتى هذا بعود وهذا بعود وذاك بعود فجمعوا عيدانهم وأجّجوا
نارهم وأنضجوا قديرهم»؛ يعني ما في القدر؛ يعني أن الذنوب تجتمع، فلا يسوغ
لأحد أن يستسهل بالذنب.
ولهذا تجد أن ربما جل وعلا في كتابه نهى العبد
عن اتباع خطوات الشيطان، فقال سبحانه ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ?[النور:21]، وقال سبحانه ?يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ?[البقرة:208]، أعظم ما يجني به على نفسه أن يتساهل
في خطوات الشيطان؛ لأنك تكون صالحا أو تكون بعيدا عن الكبائر، فتتساهل
شيئا فشيئا بنظر، ثم في خلوة، ثم في كلام، ثم في محادثة، فتقع في كبيرة من
كبائر الذنوب، أو تتساهل في مال ثم كذا حتى تدخل الربا أو تدخل في رشوة أو
تخون الأمانة أو تدخل في أقوال وأفعال منكرة.
فإذن يجب على العبد أن
يحذر في الأمور العملية وفي الأمور العلمية العقيدة أن يقطع حبل لشيطان
وخطوات الشيطان، إذا أحس بمخالفة السنة، بمخالفة ما أمر الله جل وعلا به
فيقف عند ذاك يحمي نفسه، وإلا فإنه لم يكون سعيدا؛ لأن الذنب يلاحق العبد
إما ملاحقة نفسية أو ملاحقة قدرية، وقد قال لنا جل جلاله وتقدست أسماؤه في
سورة الشورى ?وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ?[الشورى:30]، وقال سبحانه ?ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي
النَّاسِ?[الروم:41]، الفساد يعني الأمور التي هي فساد عليهم في معايشهم
لماذا ؟ قال ?بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ? وهكذا.
فإذن علامة السعادة وعنوان السعادة أن العبد إذا أذنب استغفر.
فلهذا
إذا اجتمعت لك -وأنت أبصر بحالك- إذا اجتمعت لك هذه الثلاث فكنت: شاكرا
على العطية، صابرا على البلية، مستغفرا من الخطية. فقد جمع لك الخير من
أطراف وكنت من السعداء حقا ممن حيي حياة طيبة ?مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن
ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً?[النحل:97]، وهذه الحياة الطيبة لا يعلمها إلا أهلها الذين
عاشروها ومنّ الله عليهم بحصول هذه الثلاث، ولهذا قال بعض أهل العلم لو علم
الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليه بالسيوف؛ لأن
هذا شيء لا يؤتى، هو فضل الله جل وعلا؛ طمأنينة، سكينة، رضا، إخبات، مناجاة
لله جل وعلا، حياة هنية رضية، إذا أتته النعمة شكر، إذا أتى البلاء صبر،
إذا أذنب استغفر، فتجده منشرح الصدر، قوي القلب، سعيد الفؤاد، لا همّ عنده،
وإذا أتى الهم فإنه يزول لأن معه من طاعة الله من الشكر والصبر والرضا ما
يجعله ينفي الهم وينفي الغم عن نفسه.
أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم ممن إذا أعطي شكر وإذا ابتلي صبر وإذا أذنب استغفر.
كما أسأله سبحانه أن يدلني وإياكم على أبواب الخير، وأن يباعد بيننا وبين أبواب الشر، وأن يجعلنا من الذين قبل قليل عملهم ونمّاه.
اللهم فاجعلنا من المتقين واغفر لنا ذنوبنا واغفر لوالدينا ووفقنا ووفق أولادنا ووفق أهلينا وأحبابنا جميعا.
واجعلنا من المتحابين فيك المجتمعين على طاعتك.
اللهم .... من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن إنك جواد كريم.
اللهم وامنح الجميع الفقه في الدين وملازمة التقوى واليقين.
وصلى الله وسلم وبار على نبينا محمد.
[الأسئلة]
س1/
تأتي بعض النساء إلى المساجد لأداء صلاة التراويح متعطرة قد أبدت ذراعيها
مخرجة عينيها وجزءا من وجهها، فهل من كلمة توجيهية لمثل هؤلاء وجزاكم الله
خيرا؟
ج/ الحمد لله.
المرأة المؤمنة أو المسلمة إذا رغبت في الخير
وأرادت الحضور إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح أو الجمعة في بعض
المساجد أو نحو ذلك، فلا شك أنها ما أقبلت على ذلك على ما هي فيه من ضيق
ومشاغل في بيتها إلا رغبة في الخير، إلا رغبة في الحسنات، إلا رغبة في
الطاعة وثواب الله جل وعلا ورضاه، ولهذا تكثر مثل هذه المظاهر، ووجودها من
جرّاء جهل النساء لا من جرّاء تعمدهن المخالفة إن شاء الله تعالى.
لهذا
لا يجوز للمرأى أن تأتي للمسجد إلا وهي في ثياب بِذلة؛ يعني في ثياب مبتذلة
لا تظهر ثوبا جميلا ولا تظهر ريحا جميلاـ وإنما تكون متبذلة ومتعبدة لربها
جل وعلا، وقد ثبت في صحيح مسلم أن نبينا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
قال «أيما امرأة مسّت بخورا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة» (أيما امرأة)
يعني أن المرأة إذا كان فيها طيب وإذا مشت شُمّ منها الطيب فإنها لا يجوز
لها أن تحضر المسجد، ويجب على وليها أن يمنعها؛ لأنها إنما أتت بالطاعة،
وهذه نهى عنها النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ فلهذا ارتكبت المنهي
فهي آثمة، أتت تطلب أجرا فارتكبت إثما، فعليها إذن أن لا تأتي بما ينقص
الحسنات والحمد الأمر سهل.
يستثنى من ذلك الطيب الخفيف للمرأة مثلا في
غطائها الذي هي تشمه حتى لا تتأذى بالروائح الكريهة، بحيث لا يشم هذا الطيب
من بجوارها من النساء؛ يعني لا يكون فائحا، وإنما بقدر أن لا تتأذى من
الروائح الكريهة، فهذا لا بأس به.
والمرأة إذا كان فيها رائحة كريهة
يعني من جرّاء الطبخ أو من جرّاء شيء آخر أو نحو ذلك، فليس لها أن تتطيب ثم
تحضر إلى المسجد، ومثل ذلك حضور المرأة بلباس الزينة، تبدي بعض بدنها أو
بملابس تلفت النظر إليها، وإذا مشت نظر إليها الرجال، معلوم أن الرجال
معلوم أن الرجال حضروا لكي يحدث في قلوبهم الخشوع والإنابة وأن تَرِقّ
قلوبهم وأن تخشع، فكيف إذا رأوا النساء بعد الخروج من المسجد وهذه متزينة
وهذه رائحتها طيبة وهذه متبرجة إلى آخره، فلاشك أن هذا يُذهب ما من أجله
شُرعت الصلاة عند بعض الناس.
لهذا أوصي النساء جميعا وكذلك أولياء
النساء أن يبتعد النساء عن ما به نقص حسناتها أو ما به الإثم كالتطيب أو
كالتبرج أو السفور أو نحو ذلك.
أسأل الله للجميع التوفيق ومغفرة الذنوب.
س2/
فضيلة الشيخ أحسن الله إليكم وأثابكم نلاحظ كثيرا من الناس يقبل على الله
عز وجل بالصلاة وقراءة القرآن وأنوع الطاعات في بداية هذا الشهر، ثم ما
يلبث يفتر شيئا فشيئا فما نصيحتكم لهؤلاء؟
ج/ لم أطاع الله جل وعلا؟
لاشك أن الطاعة المراد منها العبادة، والعبد يعبد الله جل وعلا إلى الموت
?وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ?[الحجر:99] يعني إلى
الممات، فإذا عبد فترة -يعني عبد زمانا- ثم ترك ذلك إلى معصية هذا دليل
سوء؛ لأن من علامات قبول الحسنات الحسنة بعدها، ومن علامات رد الحسنة
السيئة بعدها، يعني من العلامات الغالبة لا الدائمة.
لهذا العبد ليس له
راحة إلا الجنة، ليس للعبد راحة حتى يأمن من الفزع ويدخل الجنة، إذا فاز
هناك يرتاح، هذا الذي يعبد أسبوع يعبد أسبوعين ثم بعد ذلك يترك ذلك إلى
معصية، فهذا لاشك أنه على غير خير، فالواجب على العبد ملازمة الواجبات
الواجب على العبد ملازمة الفرائض ملازمة الواجبات.
أما إذا كان يقدم على
النوافل يعني على صلاة الليل في رمضان ثم بعد ذلك يفتر؛ ولكنه محافظ على
أداء الواجبات مبتعد على المحرمات، فالنفل الناس فيه درجات وطبقات؛ لكن
ينبغي على العبد أن لا يترك نفسه من الخير «فمن صام رمضان إيمانا واحتسابا
غفر له ما تقدم من ذنبه»، لهذا قال النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
فيما صح عنه «إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كنت فترته إلى سنتي فقد
أفلح وأنجح ومن كانت فتراه إلى معصية فقد خاب وخسر»، يعني أن مسألة الإقبال
على الطاعة النوافل، واحد قرأ في أول رمضان خمس أجزاء، ثم بعد ذلك صار في
اليوم يقرأ جزء أو جزأين، هذا الناس فيه درجات لكن ينبغي له أن يحض نفسه
على الخير؛ لكنه يكون مطيعا في أول الشهر ويقبل فيعزم على الطاعة فيعود إلى
الذنب والمعصية، هذا لاشك أنه مما يجب على العبد أن يتوب منه في هذا الشهر
قبل أن يفوت وقت الليالي الفاضلة.
س3/ فضيلة الشيخ إذا ذهبتُ لأداء
العمرة وكان موعد العودة من مكة مع الملة بعد صلاة الجمعة، هل يجوز لي
الجمع بين صلاة الجمعة والعصر في الحرم؟
ج/ العصر لا تُجمع مع الجمعة؛
لأن الجمع للمسافر، والمسافر لا تجب عليه الجمعة فإذا نزّل نفسه منزلة مقيم
فصلى الجمعة، فلا ينزّلن نفسه منزلة مسافر فيجمع ما بين العصر وما بين
الجمعة؛ لأنه حينئذ يكون جعل نفه مقيما مسافرا.
لهذا إما أن يترك الجمعة فيجمع إليها العصر لأنه مسافر، وأما إذا كان مقيما فإنه يصلي الجمعة ويصلي العصر في وقتها.
وهذا هو القول الصحيح في هذه المسألة، وأهل العلم لهم فيها قولان وهذا أصح القولين فيها لما ذكرت من التعليل.
س4/ فضيلة الشيخ بمناسبة قرب العشر الأواخر أسأل الله سبحانه وتعالى وإياكم ذلك بمناسبة ذلك:
هل يجوز الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة وما صحة حديث «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»؟
متى يستحب دخول الإنسان إلى المعتكف ومتى يستحب خروجه منه؟
ج/
أما الاعتكاف بالنسبة للرجل فمكانه كل مسجد تُصَلَّى فيه الجماعة إذا كان
زمن الاعتكاف لا يتخلّله جمعة، وإذا كان يتخلله جمعة فكل كل مسجد تقام فيه
الجمعة والجماعة، فعام في كل مسجد.
والمرأة يصح منها الاعتكاف في كل مسجد إلا مسجد بيتها.
ودليل
هذا قول ربنا جل جلاله ?وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي
الْمَسَاجِدِ?[البقرة:187]، يعني في مساجد المدينة، وفي المدينة كان ثَم
مسجد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وكان ثم مسجد قباء وكان ثم
مساجد في الأحياء، فجمع ودلّ هذا الجمع على أن الاعتكاف جائز في كل مسجد
جماعة وجمعة.
إذا تبين ذلك فالحديث عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «لا اعتكاف إلا في أحد المساجد الثلاثة» هذا حديث إسناده جيد بعض
أهل العلم لكنه محمول على الاعتكاف الأكمل؛ لأن المساجد الثلاث هذه الصلاة
فيها مضاعفة، فالمسجد الحرام الصلاة فيه بمائة ألف صلاة، والمسجد النبوي
الصلاة فيه بألف صلاة، وبيت المقصد الصلاة فيه بخمسمائة صلاة.
وهذا له
نظائر من أن ورود الاستثناء بعد النفي الذي يفيد الحصر يراد به تارات
الكمال، وهذا مثل «لا صلاة إلا بطهور»، «ومثل لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
وأمثال ذلك مما فيه الحصر، ومعلوم أن الطهور للصلاة لا يتجدد وأن الفاتحة
بالنسبة للمأموم أنها لا تجب عند كثير من أهل العلم يعني ليس ثم بإجماع في
المسألة.
فدل على أن الحصر في حديث «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة»
إنما هو للكمال؛ يعني لا اعتكاف كامل إلا في المساجد الثلاثة وأما غيرها
فالعبد يفوته الفضل.
ولهذا قال جمهور أهل العلم؛ بل عامة أهل العلم وليست بمسألة إجماع إن الاعتكاف يصح في كل مسجد.
أما
المسألة الثانية فهي متى يدخل المعتكف؟ يدخل المعتكف إذا أقبلت العشر يعني
إذا صلى الفجر من يوم العشرين؛ يعني أصبح إذا صلى الفجر من يوم الحادي
والعشرين يمكث في معتكفه حتى تغيب الشمس من آخر أيام رمضان، ثم بعد ذلك له
أن يخرج من معتكفه.
وبعض أهل العلم يقول إنه يمكث حتى يصلي العيد،
والمسألة من حيث النهاية فيها سعة، والنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ
دلّت سنته على الخروج من معتكفه قبل فجر العيد أي قبل صلاة العبد.
س5/ فضيلة الشيخ حفظه الله أنا شاب ومنّ الله علي بالهداية والاستقامة منذ أيام اسأل الله لي ولكم الثبات.
سؤالي ما الطريق الصحيح الذي أسير عليه جزاكم الله خيرا؟
ج/
أهنيه أولا بهذه النعمة العظيمة «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين» وقد
قال جل وعلا ?فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا
حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء?[الأنعام:125] الحمد لله أهل
هذه البلاد موحدون مسلمون لكن الهداية بملازمة الطاعة وبالفقه في الدين
وبالإقبال على ربك جل وعلا إخباتا وإنابة وتوبة من الذنوب وملازمة للعمل
الصالح هذه نعمة كبرى بها تكفر السيئات.
وأبشر كل من تاب بأنه مهما عظمت
السيئات بأنه خير له لأن الله جل وعلا قال ?وَلَا يَزْنُونَ وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ
وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (70) وَمَن تَابَ وَعَمِلَ
صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا?[الفرقان:68-71] بهذا
من كانت عليه سيئات فصدق في التوبة وآمن وعمل صالحا فإن تلك السيئات يبدلها
الله جل وعلا حسنات، وهذا من فضل الله جل وعلا على العبد، ومن أساء في
الإسلام أُخذ بما أساء في الإسلام والجاهلية؛ يعني فيما كان من جنسه، ومن
أحسن في الإسلام كتب له عمله في الجاهلية -يعني من السيئات- تقلب له حسنات.
لهذا
يقول أهل العلم هذا فلان أسلم فحسن إسلامه؛ يعني لازم التقوى والصلاح
ولازم الإيمان ولزم دواعيه، ولم يخرج عن ذلك لازمه حتى عرف في حقه وصار
حسنا في حقه.
لهذا أهنئك وأسأل الله جل وعلا لك الثبات.
وأما الوصية
هي أن تستقيم على طاعة الله؛ لأن الله سبحانه أمر بالاستقامة، مسألة
الاستقامة ليست سهلة؛ لابد فيها من مجاهدة، ولا تكون الاستقامة إلا بأسباب:
أولا دائما تعظم الرّغب عند الله جل وعلا بملازمة الفرائض وعدم الرجوع إلى ما كنت عليه.
والثاني أن تلازم أصحاب خير يعينك على الهدى.
والثالث
أن تسعى في الفقه بالدين والعلم بالتوحيد والعقيدة والفقه فإن الفقه
والعلم ينور الله جل وعلا به الصدور ?إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?[فاطر:28].
أسأل الله للجميع التوفيق وأن يمنّ على ذرارينا جميعا بالهدى والاهتداء.
س/ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
في
هذه الليلة 17/9/ تقام محاضرة وهي عن غزو بدر كما أن وسائل الإعلان
المسموعة والمرئية والمقروءة تتحدث عن غزة بدر في هذا اليوم، فضيلة الشيخ
نرجوا توضيح هذا وهل من المناسب أن تقام هذه المحاضرة وهو موافق لغزوة بدر
كما هو معلوم، وكذلك الحديث عنا بوسائل الإعلام في هذا اليوم بالذات وحيث
أن هذا الأمر قد أشكل على كثيرين من الناس نرجو التوضيح وفقكم الله ورعاكم.
ج/ أما ما أشار إليه من حصول محاضرة فقد عالجناه؛ يعني بنوع من المعالجة فيمن قصد وأوقفناه.
وأما
تدريس بعض الناس أو بعضهم بذكر غزوة بدر في مثل ليلة البارحة وهي أيام
السابع عشرة يحتفل أهل البدع بتلك الليلة بذكرى غزوة بدر، يذكرون بالتعلق
بالنبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ وما أكرم به نبيه إلى غير ذلك،
وهذا التخصيص من البدع؛ لأن السنة جاءت بأن تلك الليلة لا يُحتفل فيها ولا
تخص بنوع ذكر ولا بنوع طاعة ولا بنوع موعظة، وهذه القصص إما هي نوع ذكر من
بعض أصحابها أو أنها موعظة وتخصيص ليلة بعبادة هذا إنما يكون من المشرّع
وإذ كانت الدواعي في عهد النبي عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ داعية إلى
ذلك فلم يفعلها، وإذْ كانت الدواعي إلى ذلك داعية إلى ذلك في عهد الصحابة
رضوان الله عليهم في عهد الخلفاء الراشدين وفي عهد الصحب الكرام في عهد
التابعين وفي عهد تبع التابعين فلم يخصوا تلك الليلة بذكر غزوة بدر، علمنا
يقينا أن إحياءها بالتخصيص فيها بذكر غزوة بدر أنها من البدع التي لا يجوز
إقرارها.
وبعض أهل العلم يسهل في ذلك ترغيبا في الخير بشرط ألا يكون ثَم احتفال، وإنما هي موعظة بهذه المناسبة.
والصحيح
أنه لا يتساهل في ذلك ويفتح إما أنه بدعة في نفسها، أو تفتح طريق البدع
وتسهل ذلك، وقانا الله جل وعلا وبلادنا ومن البدع وأهله.
س/ أسأل الله
جل وعلا أن .... بالإيمان، وأن يعفو عنا وعنكم ما سبق وكان من الذنوب
والعصيان، فضيلة الشيخ: لا أحب أن أطيل عليكم ولكن نقطة بود أن تتحدثوا
عنها في ظل الفتن التي عمت وطمت في هذه الأيام تكثر الانتكاسات عن طريق
الحق، فبودنا يا فضيلة الشيخ أن تتحدثوا عن أهم شيء يثبت الله به الإنسان؟
ج/
أولا قول الأخ (الفتن التي عمّت وطمّت) إن عنى بها الفتن بالمفهوم العام
يعني فتنة الرجل بأهله بزوجه ?إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ
فِتْنَةٌ?[التغابن:15]، هذا صحيح.
أما إذا عنى بالفتن يعني التي هي تجعل
الحق ملتبسا أو الفتن التي هي مبطلة للخير هذه ولله الحمد لم تعم ولم تطم،
وإنما هي موجودة وتزيد أحيانا وتنقص أحيانا بقدر مجاهدتها، وهذه سنة الله
جل وعلا في إيجادها وفي ابتلاء الناس بإنكارها وبالدعوة إلى الهدى.
إذا
تبين ذلك فإن الرجوع عن الثبات له أسباب كثيرة، ومن أسبابه أن يكون المرء
مشتغلا بما لا ينفعه، أصل الأمر، فإن العبد إذا اشتغل بما لا ينفعه ولم
يلازم مقتضى العلم الصحيح ولم يلازم أهل العلم ولم يلازم التقوى والمسجد
والقرآن وإنما صار خوّاضا قوالا يتكلم بهوى أو ينطق إذا تحمس تحمّس لرأيه،
وإذا سَكت سكت على رأيه، وليس محكما للشريعة على نفسه مطمئنا ذا سكينة،
فإنه ربما يحصل للعبد أشياء.
وأما العبد إذا جاهد نفسه فألزم نفسه
السكينة في أقواله وفي أعماله وفي علمه وفي تصوره وتفكيره وفي تعامله، وكان
ذا طمأنينة ملازما للحق متبعا العلم كافا لسانه عمّا لا يعنيه فإنه فعل
السبب الذي به يحميه الله جل جلاله.
والمرء هو حسيب نفسه، وإذا علم
العبد من نفسه أن القلب قسا بكلام ليس في محله فليتب وليدم قلبه خاصة
اللسان؛ اللسان مورد الهلاك، وقد يكون ثم دعوة على العبد من رجل ظلمه، يكون
ظلم أحدا أو اعتدى أحد باللسان فيكون آخر دعا عليه؛ لأن كل من سبني
واتهمني بكذا أو كذا فإنه أسأل الله أن يفعل به كذا وكذا ونحو ذلك، ولهذا
مما يجب على العبد أن يتحرى في لسانه.
والملاحظ على عدد من الشبيبة في
الزم الماضي وإلى الآن وهي من ديدن الشباب أنهم يتكلمون في كل شيء، وهذا
لاشك خلاف التقوى، وخلاف ما يوجبه العلم؛ فإن الله سبحانه يقول لعباده جل
جلاله في سورة النساء ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ
مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ
وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا?[النساء:114]، أنظر إلى الشرط أولا ?لاَّ خَيْرَ فِي
كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ? يجلسون مجالس طويلة كلام أخذ ورد لا ينفع، وقد
يكون فيه تعد وفيه سوء ظن، وقد يكون فيه قيل وقال محرم ويكون أهواء، قال
سبحانه ?لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ
بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ
ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا?،
وقد قال جل وعلا أيضا ?وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا
تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ
مَصِيرًا?[النساء:115]، وقال سبحانه ?لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى
الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ ?[الأنعام:71]،
فإذن العبد كل إنسان شابا كان أو كبيرا عليه أن يحافظ على لسانه فقد ثبن عن
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال لمعاذ ثكلتك أمك يا معاذ
وهل يكب الناس في النار أو قال على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، وربنا أيضا
جل جلاله قال لنا في سورة الإسراء ?وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي
هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ?[الإسراء:53]، فإذا
كان العبد يتكلم في كل شيء يقسو القلب.
ولهذا من علامات التوفيق قلة
الكلام، ومن علامات الخسران كثرة الكلام فيما يعني وفيما لا يعني، إن ك