أقسام الناس في القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إِنَّ
الحَمدَ لِلَّهِ نَحمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ وَنَستَغفِرُهُ، وَنَعُوذُ
بِاللَّهِ مِن شُرُورِ أَنفُسِنَا وَمِن سَيِّئَاتِ أَعمَالِنَا، مَن
يَهدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَن يُضلِل فَلَا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ،
وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعدُ: فَإِنَّ
خَيرَ الكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيرَ الهَديِ هَديُ مُحَمَّدٍ -صلى
الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحدَثَاتُهَا؛ وَكُلَّ مُحدَثَةٍ
بِدعَةٌ، وَكُلَّ بِدعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ و بعد
:
****************
يقول الشيخ العلامة عبد الله بن جبرين رحمه الله:
* والإيمان بالقدر ينقسم الناس حوله ثلاثة أقسام:
المعتزلة:
القسم الأول: نفوا قدرة الله وهم المعتزلة فقالوا:
إن العبد يخلق فعله، وليس لله قدرة على أفعال العباد، بل العبد هو الذي
يتحرك بنفسه، وهو الذي يفعل بنفسه، والله لا يقدر أن يرده، فلو أراد العبد
شيئا وأراد الله ضده، لم يقدر الله على أن يرده!
وهؤلاء
غلوا في قدرة العبد، ونفوا قدرة الله، وادعوا أن ذلك تنزيه لله، وهؤلاء في
الحقيقة قد تنقصوا الله، وجعلوه عاجزا! وقد تكلم بعض العلماء عليهم في
ذلك، ومنهم صاحب شرح الطحاوية، وأورد لذلك قصصا وأمثالا .
الجبرية:
القسم الثاني : غلبوا قدرة الله وهم الجبرية الذين
لم يجعلوا للعبد أية قدرة، بل جعلوه مجبورا على حركاته وعلى أفعاله، وليست
له أية أفعال، ولا تنسب إليه أية أقوال، بل إن حركاته بمنزلة حركة الشجر
التي تحركها الرياح، أو حركة المرتعش الذي ترتعد يداه، ولا يقدر على أن
يمسكهما، فجعلوه مجبرا على فعله، ولم يجعلوا له أي اختيار في ذلك، ويقول
قائلهم:
ألقـاه في البـحر مكتوفا وقـال لـه إيـاك إيـاك أن تبتـل بالمـاءِ!!
ويقول آخر:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتي عدن ثم لاموا البزاة إذ أطلقوا لهن الرسن
لــــو أرادوا صيــانتـــي ستـــروا وجهــك الحســن
فكأنهم يقولون: إن الله هو الذي
أوقع العبد في المعصية، وهو الذي حرك أفعاله، فإذن تعذيبه له يكون ظلما ،
فليس للعبد أي اختيار!! ولا شك أنهم مخطئون.
ولا بأس أن أعلق على أقوالهم وإن كان الكلام يستدعي طولا، فأقول:
إن هؤلاء متناقضون؛ ذلك لأنهم لا يستمرون
على فعلهم، بل إنهم لا يعتمدون عليه في كل الأحوال، ولا يحتجون بالقدر في
كل حال من الأحوال.
ونقول لهؤلاء: إذا كان الحال كذلك فلا
تطلبوا المعيشة ما دام أن الله قدر لكم رزقا، فإنه سيأتيكم به، اجلسوا في
بيوتكم ولا تتكسبوا، ولا تحرثوا، ولا تزرعوا، ولا تتاجروا، ولا تتعلموا،
ولا تعملوا، أي عمل! بل لا تأكلوا، ولا تشربوا، ولا غير ذلك، فإذا كان الله
قد قدر لكم ذلك، فإنه سيأتيكم ويصل إليكم!
فلو قلنا ذلك لهم لما امتثلوا، فدل ذلك على أنهم متناقضون.
فما
دام أنك تقدر، وأنك تقلب في أمور الدنيا، فلماذا لا يكون لك القدرة على
الأعمال الصالحة، مثل العبادات والطاعات والحسنات والقربات ونحوها؟!
كذلك أيضا نقول لهم: إن هذا كله بقضاء وقدر، ولكن لكم أفعال تستطيعون بها أن تنسب إليكم، فقد روي أن عمر -رضي الله عنه- رفع إليه سارق، فلما أراد أن يقطع يده قال السارق: يا أمير المؤمنين، هذا قدر، فالله قدر علي هذه السرقة. فقال عمر -رضي الله عنه- أنت سرقت بقدر الله، ونحن نقطع يدك بقدر الله. فإذا كان هذا بقدر، فهذا أيضا بقدر!
كذلك
ذكر أن رجلا كان يقود أعمى، فجعل يقوده بعنف، وجعل يعثر به في الحفر، وفي
الحجارة، ونحوها ويقول: هذا بقدر! هذا مقدر! ثم إن الرجل الأعمى ضربه بعصاه
بقوة، فقال: هذا أيضا بقدر، فإذا كان تعثرك بي وتعمدك بي بقدر، فأنا أضربك
بقضاء وقدر!
ونقول لهؤلاء أيضا: إن العقوبة التي رتبها الله تعالى على
هذه الأفعال، لا شك أنكم تستحقونها؛ لأن الله رتب على من فعل كذا عقوبة
كذا، فالعقوبة على أفعالكم بقضاء وقدر.
أهل السنة:
القسم الثالث: أهل السنة والجماعة: إن عقيدة أهل السنة أن الله تعالى أعطى العباد قدرة يزاولون بها أعمالهم أو
جعل لهم اختيارا يفضلون به بعض الأعمال على بعض؛ فلذلك تنسب إليهم
أعمالهم، وتضاف إليهم أفعالهم، ولو كانت بقضاء الله وبقدره وبمشيئته، فإنه
-سبحانه- لا يعصى قسرا، ولا يكون في الوجود إلا ما يريد، ولكن له الحجة
البالغة.
والله -سبحانه وتعالى- يذكر دائما احتجـاج المشركين بالقدر، ثم يـرد عليهم، وينكر عليهم، مثل قولـه تعالـى: سَيقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ - هذا احتجاج من المشركين بعموم مشيئة الله – إلى قوله تعالى: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ فأخبر بأن له الحجة، ولو شاء لهداهم.
ويقول تعالى في آية أخرى: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ فهو
-سبحانه وتعالى- لو شاء لهداهم، ولكن اقتضت حكمته أن يكون في هذا الخلق
سعيد وشقي، وفاجر وتقي، وكافر ومسلم، ومشرك وموحد، وعابد وغير عابد، اقتضت
ذلك حكمة الله -سبحانه وتعالى- واقتضى أمره وحكمته أن جعل الناس قسمين: قسم
خلقهم للجنة فبعملها يعملون، وقسم خلقهم للنار فبعملها يعملون.
ومكن كلا منهم، وأعطاهم إرادة، وأعطاهم قدرة يزاولون بها أعمالهم، وتلك القدرة وتلك الإرادة هي التي يثابون أو يعاقبون عليها.
ومع ذلك فإنهم كلهم تحت مشيئة الله، ولهم مشيئتهم، ولكنها مرتبطة بمشيئة الله، يقول الله تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ يعني أن لكم مشيئة على الاستقامة، ومع ذلك فإن مشيئتكم مرتبطة بمشيئة الله.
وقال تعالى: فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .
وقال تعالى: فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ .
فالله
أثبت للعباد مشيئة، ولكنها مغلوبة بمشيئة الله -سبحانه وتعالى- وله الحكمة
في ذلك، وبمشيئة هؤلاء العباد الذين مكنهم وأعطاهم إياها، يثابون ويعاقبون
عليها.
فعلى كل حال نقول لهؤلاء الذين يقولون: (سبق الكتاب)، (وكتب الكتاب) ونحو ذلك.
نقول لهم: قد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار أو من الجنة فقال رجل من
القوم: ألا نتكل؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له،
ثم قرأ: فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل
واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى .
فقد أثبت الله تعالى في هذه الآية أن للإنسان عملا فقال: أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ وهذه كلها أعمال، ثم قال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى أي إذا عمل صالحا كالتقوى والصدق ونحوها فإنا سنيسره لليسرى.
ثم قال: بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ وهذه أيضا أعمال، قال: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى أي إذا عمل أعمالا غير صالحة، كالبخل والكذب ونحوها، فإنا سنيسره للعسرى.
فالإنسان
إذن له عمل، وعمله هو أنه يؤمر فيأتمر ويمتثل، ويكون ذلك بمشيئة الله، فلو
شاء الله تعالى لم يستطع، ولو شاء الله لرده، ولحال بينه وبين ذلك، لكنه
شاء، وله مشيئته التامة، فخلى بينه وبين هذا الاختيار، إن خيرا فخير، وإن
شرا فشر، وتوعدهم على ذلك:
فتوعدهم على الشر بأنه يعاقبهم عليه، وإن كان الله قادرا على هدايتهم.
ووعدهم على الخير بأنه يثيبهم عليه، وإن كان الله قادرا على إضلالهم.
وله
الحكمة البالغة بأن خلق هؤلاء للجنة وهداهم، وأقبل بقلوبهم، فله المنة
عليهم، فلا ينعمهم إلا بفضله. وخلق هؤلاء للنار، ويعذبهم بها، وإن كان
قادرا على أن يهديهم، ولكنه حال بينهم وبين ذلك، ولم يوفقهم لأسباب
الهداية، وجعل لهم الاختيار في أن فضلوا الشر على الخير، فإن عملوا بالشر
وصاروا من أهله، عاقبهم ربهم، وعقوبتهم تكون عدلا منه وليس ظلما: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا .
وبالجملة
فإن الكلام في هذا يطول، ومن أراد أن يتوسع في ذلك فليراجع رسالة شيخ
الإسلام، وغيرها من الرسائل، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
خاتمة
وبعد هذا الجواب المفصل المقنع إن شاء
الله فإننا نذكر مثالين - واقعين لكثير من الناس في القضاء والقدر - ، وقد
ذكرهما فضيلة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - في كتابة: الدرة البهية شرح القصيدة التائية في حل المشكلة القدرية...