يا صاحب التجريح... لا تعن على سفك دم الدعوة
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاةُ و السلام على رسول الله
إنها
سطورُ مكاشفةٍ ومصارحة......إنها عملية ترميمٍ لما تصدّع من بنيان
التربية.....إن شئتَ قُلْ إنها همساتٌ أخويّة تداوي قلوباً مريضة.....وإن
شئتَ فقُلْ إنها كلماتٌ جريئة في فضح الأدعياء.....
كتبتها حين سمعت
أصواتاً نشازاً تؤذي مسامع الدعاة العاملين المرهفة....تقيّد إقدامهم
بهمزٍ ولمزٍ فاضح،وتطعن همَّتَهم بخنجرٍ مسمومٍ من القول الجارح....
تلك
الأصوات لم تكن لعدوٍ ظاهر أو منافقٍ معلومِ النفاق....بل لأقوامٍ يزاحمون
أهل الصلاح والالتزام بمناكبهم، ويقفون معهم لخدمة دين الله في خندقٍ
واحد....ولكنهم بغوا على إخوانهم، وأصابوهم بطائش سهامهم...
ادّعَوا أن الصوابَ رداؤهم والحقَ تحت عمائمهم، فحجّروا واسعاً....تقرّبوا إلى الله ـ جهلاً ـ بإيذاء إخوانٍ لهم، يظنون أن ذلك يقرّبهم إلى الله زُلفى؛ وما بلغهم قول الهادي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يقبل اللهُ إلا الطيّب"..
فيا
ليت شعري مَن يشتري أعراضَ العلماء والدعاة اليوم من هجَّاءٍ قد تخلف في
كهوف القَعَدَة الذين صرفوا وجوههم عن آلام أمتهم، وقالوا: هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب...
و
كلما مرَّ على ملأ من الدعاة اختار منهم ذبيحاً فرماه بقذيفة من هذه
الألقاب المُرّة، تمرق من فمه مروق السهم من الرَّميّة، ثم يرميه في
الطريق، ويقول: أميطوا الأذى عن الطريق؛ فإن ذلك من شُعَب الإيمان...
إنَّ
القلب ليحزن، وإنَّ النفس لتضيق من التزامٍ صوريٍّ يعيشُ صاحبُه ضمن
دائرةٍ ضيقة من معاني الإسلام الظاهرة، فيدور في فلكها دون أن يخالط
الإيمانُ شغافَ قلبه لينعكس خُلقاً كريماً وسلوكاً رفيعاً.. وإلى مثل هؤلاء
وجَّه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطابه فقال: "يا معشر مَن آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم" ........
وإنك لتعجب من أبي بكرٍ الصّديق حين يقول فيما أخـرجه عبد الرزاق في مصنفه: "لو لم أجد للسارق والزاني وشارب الخمر إلا ثوبي لأحببت أن أستره عليه"، ولعلَّ ابن هبيرة قد فقِهَ قول الصِّديق فأسرَّها إليك أن "اجتهد أن تستر العصاة؛ فإن ظهور معاصيهم عيبٌ في أهل الإسلام، وأوْلى الأمور ستر العيوب" ....
إن قلباً كبيراً رحيماً كقلب الصدّيق - رضي الله عنه - قد وسع العصاة المجرمين ليسترهم، وأولئك ضاقت نفوسهم عن نجاحات إخوانهم؛ فأبت إلا أن تتتبَّعَ عوراتهم لتفضحهم؛ فيا لله العجب!
وهذا الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظه الله ـ يعرّي دعاوى زائفة طالما تشدق بها أشباه المتدينين لاستباحة أعراض إخوانهم الدعاة والعاملين في قوله: "إنه
ما زال المسلمون إلى يومنا هذا يطلع عليهم بين الحين والآخر مَن يزعم نصرَ
الدِّين وقول كلمة الحق، فيترك أهل الأوثان والشرك والإباحية والكفر،
ويُعمِل قلمه ولسانه في المسلمين، بل وجدنا منهم مَن لا همَّ له إلا
مـشاغلة الدعاة إلى الله والتعرض لهم بالـسبِّ والتشـهير... ولمثل هذه
الأمور - التي يرونها مخالفاتٍ وما هي بمخالفات ـ يستحلّون
أعراضـهم، وينتـهكون حرمـاتهم، ويفتّشـون على أسرارهـم، ولا يجدون لهم
ديناً في الأرض إلا تفريق جماعتهم، وتمزيق وحدتهم وملء صدور الناس
بكراهيتهم ومحاولة فضِّ الناس عنهم" .....
وهذا ابن القيم ـ رحمه الله ـ
يلفّه استغرابٌ من مُدَّّّعي التديّن والوَرَع الذين سَلّوا سيوفَ الكلمة
لتقطّعَ لحوم إخوانهم، ولم يُراعُوا لميِّتٍ حُرمة، فيقول: "وكم ترى من رجلٍ متورّعٍ عن الفواحش والظلم ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات، ولا يبالي ما يقول!!".....
ويقول الشيخ محمد أحمد الراشد ـ حفظه الله ـ معلِّقاً: "هكذا أعداء الإسلام دوماً يريدون قطع رأس الجماعة، وكسر أضلاع تنظيماتها، والمسوغ (لله)، كما قالها ابن الحمق! وبصيحة (لله)
هذه ضاع ألوفٌ من شباب الدعوة بالأمس القريب، وثُبّطت جموعٌ، وكُشِفت
أسرارٌ، ومُلئت سجون. ولو صدقوا لقالوا مثل ما قال ابن الحمق مستدركاً: ستٌّ لِمَا في الصدر" ....
إن
أمراضاً خفيةً من هوى وحسد مع قلّةِ رصيدٍ من تربية، وبضاعة مزجاة من علم
قد تُنسي لاحقاً فضلاً لسابقٍ في دعوة لله، أو أمرٍ بمعروف، أو نهي عن
منكر، أو سجنٍ واضطهاد عند طاغيةٍ مستبدٍ، أو كلمةٍ أوْدَعها نُصحاً في
أذُن عاصٍ ضاقت به السبُل، أو كتاباً نشر فيه علماً نافعاً، أو حتى حضوراً
لمجالس الخير كثّر به سواداً للمسلمين.
وإن مما تستوحش منه قلوب
المؤمنين النقية، وتشمئز منه نفوسهم السويّة ما تراه اليوم من تصرفات رعناء
لأدعياء العلم والفضل حين يخطئ عَلَمٌ أو رمزٌ مُوثّق أو داعيةُ خيرٍ كانت
له في الإسلام سابقةٌ؛ فيستبيحون عرضه، ويهتكون أستاره، وينسون فضله،
ولمّا يشتدّ عودُهم أو ينضج فكرُهم، أو يبلغوا سنّ الحُلُم بَعْد.
وكم
رأينا من أقزامٍ تطاولوا ظلماً وعدواناً، وافتروا زوراً وبهتاناً على
أعلامٍ للدعوة ورموزٍ للفكر النيّر، قد بذلوا لله الغالي والنفيس من
أوقاتهم وأموالهم ودمائهم، وهجروا الفُرُشَ والملذات حين كان أولئك
الناقدون الناقمون يتسابقون على الدنيا وحطامها، ويسيرون وراء سراب أهوائهم
لا يلوون على شيء.
أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم *** من اللوم أو سدّوا المكان الذي سدّوا
أصاغر
ما حفظوا من كتاب الله إلا قصار السُّور، نصيبهم من العلم قليل ومن الفقه
العَدَم، ما عرفوا الله إلا قريباً، وظنوا جهلاً أنهم مع أشياخ الدعوة
وعلمائها في الفضل سواء، وما دَرَوا أنه (لا يستوي منكم من أنفق قبل الفتح وقاتل, أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعدُ وقاتلوا..)....
أين أدعياء الغيرة ـ ممن يستبشرون بأخطاء الدعاة، ويتصيّدون هناتهم، ويبحثون عن زلاتهم ـ من كلامٍ نفيس لابن القيم ـ رحمه الله ـ يشرح فيه منهجاً لميزان الرجال؛ حيث يقول:
"من قواعد الشرع والحكمة أيضاً أن مَن كثُرت حسناته وعظُمَـت، وكان له في
الإسلام تأثـيرٌ ظـاهر فإنـه يُحـتمل منـه ما لا يحتمل لغيره، ويُعفى عنه
ما لا يعفى عن غيره؛ فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث،
بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث"..
ومن هذا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعُمر بن الخطاب : "وما يدريك لعلَّ الله اطّلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم".....
وقال سعيد بن المسيب ـ رحمه الله ـ في بيان ذلك المنحى السلفي في احترام أولي الفضل والسابقة حين قال: "ليس
من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيبٌ، ولكن من الناس من لا ينبغي
أن تُذكرَ عيوبُه؛ فمن كان فضله أكثر من نقصه: وُهِبَ نقصُه لفضله"....
وكأني بمحمد بن سيرين يأخذك في زاوية من المسجد يناجيك ويرشدك، فيقول لك واعظاً: "ظلمٌ لأخيك أن تذكرَ منه أسوأ ما تعلم منه، وتكتُم خيرَه".. ثم يتلو عليك (وَلا تبخسوا الناس أشياءهم)...
ولعلَّ الشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - قد عانى من مثل هؤلاء أعداء النجاحات ومتتبعي الزلات، فقال لهم بصريح العبارة: ".. فإذا تحققتم الخطأ بينتموه، ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن، فإني لا أدّعي العصمة".
وكم
يكدّر صفوك الرائق وقاحةُ قولٍ في تبيين الحق وإنكار المنكر وردِّ الخطأ!
ولا أدري أين أصحاب تلك الإسفافات من قول الإمام الشافعي لصاحبه المزني حين
سمعه يقول: " فلانٌ كذّاب، فقال له: يا إبراهيم! اكسُ ألفاظَك! أحْسِنها، لا تقل: كذّاب، ولكن قل: حديثه ليس بشيء " .....
كم من مقالةِ حقٍ أُريد بها باطلٌ صدّتْ العشرات، بل المئات عن سماع الحقِّ من فلان!
وكم من مقالة سوء نفّرَت الناسَ من كتب أعلامٍ - تَشْرُفُ بهم الكلمةُ - فحُرِموا خيراً كثيراً!
وكم مرة أُغْلِقَ بابٌ للخير بسبب همزٍ ولمزٍ وأمورٍ بُيِّتتْ بليل!
وكم من مشروعٍ دعويٍ ضخم أجهضته كلمةُ انتقاصٍ طائشة أطلقها مراهقٌ في حق القائمين عليه!
وكم من يدٍ بالسوء امتدت فوَأدَت منشطاً إسلامياً في مهده!
وكم فُرضتْ قيودٌ وعراقيلٌ بجرّة قلمٍ ما كانت لله!
واستمـع إلـى التابعـي المخضـرم الثـقة أبـي معبد الجهنـي ـ رحمه الله ـ لتعي ما أقول:
"ففي حلقةٍ دراسية انعقدت في المدينة لتدريب وتفقيه الجيل الجديد من رجال دولة الإسلام، المكلّف باستدراك ما صنعته الفتنة، حاضرَ عبد الله بن عكيم، وطفق يلخّص لهم تجارب المخلصين، فقال:
(لا أُعينُ على دم خليفة أبداً بعد عثمان).
وكانت
كلمة مثيرة منه حقاً.. وتأخذُ الجميعَ إطراقةٌ؛ فما ثَمَّ إلا عيونٌ
تتبادل النظر مستغربةً ما يقوله الرجلُ الصالح. ما لهذا الشيخ البريء
المؤمن الذي لم يرفع في وجه عثمان سيفاً أبداً يتّهم نفسه ويلومها على ما
لم تفعل؟
وينبري جريءٌ لسؤاله:
(يا أبا معبد: أوَأعنتَ على دمه؟)...
فيقول: (إني أرى ذكرَ مساوئ الرجل عوناً على دمه؟) " ....
فهو
يتهم نفسه بجزء من دم عثمان؛ لأنه رأى بأم عينه كيف أن ما ظنَّه، وقام في
نفسه من أنه الحق قد أدّى إلى استغلال الرُّعاع له حين تكلم به، وكيف
طوّروه حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه ....
أظنك وعيتَ الوصية؛ فلا تُعِنْ على سفك دم الدعوة.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بكلامِ سوءٍ وقدحٍ في إخوانك همْ منه بَراء.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بتتبع زلات الدعاة لفضحهم، وهتك أستارهم لمجرد الاختلاف معهم.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بغيبةٍ أو بُهتانٍ لرموزها وأشياخها.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بإعطاء المتربصين فرصةَ انقضاضٍ لفُرقةٍ في الصَّف.
لا تُعِنْ على سفك دم الدعوة بوشاية عن أخيك عند ظالمٍ جائر أو مخاصمٍ فاجر.
وختاماً أيها الأخ الكريم!
إن
كنت ممَن استزلّه الشيطان يوماً فوقع في أعراض بعض العلماء الربانيين أو
الدعاة العاملين فَأْرِزْ إلى ناحيةٍ من مسجدٍ عتيق تجدُ فيه قلبك، وابكِ
على خطيئتك، وأعلنها توبة نصوحاً لا نكوص بعدها، وردد بإخباتٍ وانكسارٍ: ( ربنا اغفر لنا و لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلبونا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوفٌ رحيم ) ....
وإن
كنت ممن قد تناوشه باغٍ بأباطيل زائفة وأكاذيب مرجفة فلا تقف ولو للحظة
واحدة تلتفتُ فيها إليه، فدَعْوتك إلى تلك اللحظةِ أحْوَج، وردد بصوتٍ
يَسْمعُه وأنت ماضٍ عنه: "لئن بسطت إليَّ يدك لتقتلني, ما أنا بباسطٍ يديَ إليك لأقتلك, إني أخاف الله رب العالمين" ....
وما أروع ما رواه الإمام الذهبي عن يونس الصدفي حين قال: "ما
رأيتُ أعقل من الشافعي: ناظرته يوماً في مسألة، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ
بيدي، ثم قال: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخواناً، وإن لم نتفق في
مسألة؟! "....
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.