ليلة القدر (قصة قصيرة)
لا
أطيل عليك الكلام، ركبت (عنادي)، وأصررتُ على أن أرَى ذاك الشَّابَّ الذي
سيبذل لي كُلْيَته، وأن أجلس إليه قبل أن يلبس كلانا اللِّباس الأبيض، أريد
أن أرَى وجه هذا الذي سيعطيني قطعةً منه، حتى لو كان هذا العطاء بثمنٍ،
فأيُّ ثمنٍ سأدفع لإنقاذِ حياتي سيكون ثمنًا بخسًا، ولا تسألني عن: ماذا
نويت أنْ أفعل إذا ذهبت له؟ أُرَبِّت على كتفه، أشكره، أعتذر له، أشدُّ على
يده قبل أن يدخل غرفة العمليَّات، كما يفعل النَّاس مع مَن سَيُجرون
العمليَّات الجراحيَّة، لا أعرف، كلُّ ما أعرف هو أنني أردت أنْ أراه.
وجدتهم
يحاولون صرفي عن ذلك بكلِّ وسيلةٍ، وبكلِّ لطفٍ، ويقولون: إن هذا غير
معتادٍ بين المريض والمتبرِّع، ورأيتُ في عيونهم قلقًا يُحاولون إخفاءه،
وقالوا، وقالوا، وقالوا، إلاَّ أني قلت: أراه، أو لا شيء.
أخذتُ
العنوان منهم كتابةً ورسمًا، وركبتُ سيَّارتي؛ حيث أعرف وجه المكان، وهناك
عندما وصلتُ للحيِّ العتيق الرَّاقي، الذي طالما مررتُ به أو ذهبتُ لأحد
مَتاجره، وجدت رجلاً واجمًا، يبدو أنه ينتظر مواصلةً عامَّةً، ووقع بصري
على مَحل الزُّهور خلف الواجم، كانت على جانبه باقةٌ زاهيةٌ، ارتكنتْ على
منظرٍ طبيعيٍّ لحديقةٍ تتوسَّطها شجرةٌ، مُلصقٍ على حائطٍ - لعلَّه من خشبٍ
- فانسجمتِ الخلفيَّة الخضراء مع الزَّهر، وكان ثمَّة ثقبٌ في جذع
الشَّجرة بحجم العين، ثمَّ شعرتُ أن باقة وردٍ لا تتناسب أبدًا وتلك
الزِّيارة، وأن ما معي أنفع وأحسن مثوبةً، فصرفتُ نظرًا عن هذه الفكرة، ولم
أصرفه عن الرَّجل الواجم.
سألتُ من سيَّارتي هذا الواجم المنتظِر
عن العنوان، حكَّ في رأسه وأعاد عليَّ اسمَ المنطقة كأنه يستوثق مني إن
كانت هي المقصودة حقًّا، ثمَّ أشار عليَّ أن أترك سيَّارتي هنا، وأُكمِل ما
تبقَّى على قدميَّ؛ إذ لا سبيلَ لأَنْ تدخلَ سيارتي تلك الدَّهاليز التي
سأقدم عليها، فبالكاد تلج بها درَّاجةٌ هوائيَّةٌ، أسعد الله مساءه! قد كان
هذا مدهشًا لي كلَّ الدَّهشة: أقريبٌ من هنا؟! كيف تتوارَى خلف هذه
الحديقة العريقة من خلفي، والدَّارات الرَّاقية، وصَفِّ المتاجر الرَّاقية
عن يميني - منطقةٌ بهذا السُّوء الذي يصفه الرَّجل؟! إنَّ ما يصف لا يبدو
له أثرٌ من الشَّارع العامِّ، ولا من الجسر الشَّهير الذي يمرُّ أعلَى
الحيِّ، أقريبٌ من هنا؟!
لا أطيل عليك، فقد ترجَّلتُ، ودخلتُ من
الشَّارع الجانبيِّ الذي أشار إليه، والذي ستبدأ منه الخُطَى الحقُّ للوصول
للرَّجل، مشيت به قليلاً، ولاحظت أوَّل ما لاحظت بعد تواضع البِنايات أن
أهله لهم سَحَناتٌ مختلفةٌ عن المارَّة هناك من عند الحديقة، أو الذين
خرجوا لتَوِّهم بعد أن تبضَّعوا من محالِّ الملابس.
هنا عرقٌ،
وجهامةٌ، وكَبَدٌ، ووجوهٌ مرهقةٌ، على بُعد أمتار قليلة من أولي النَّعمة
المضمَّخين بالعطر، نَضِري الوجوه، وقد كان هناك محلٌّ لإصلاح الدَّرَّاجات
الهوائيَّة، محلُّ (عجلاتي)، تلطختْ يدا العامل به في الشَّحم، وهو يعالج
درَّاجةً أمامه، كرسيُّها لأسفل وعجلتاها لأعلَى، وقد جلس على صفيحة
مقلوبة، ينظر في تروسها ويحرِّك بدَّالَها.
ومن جانبه ورشٌ بسيطةٌ
أخرَى للسَّمكرة والخراطة والحدادة، وسألتُ العَجَليَّ؛ لأتأكَّد من وصف
الرَّجل الواجم الذي يقف أمام الورد والحديقة والشَّجرة المثقوبة، أو
بالحريِّ لكي أتذكَّر ما تبخَّر سريعًا من ذاكرتي، فقام لي، ومدَّ يده
للسَّلام، فسلَّمتُ متأفِّفًا، ووصفَ، وكان وصفه أنفع وأحسن تفصيلاً.
ومن
هذا الشَّارع الجانبيِّ انعطفتُ بعد قليل في شارع أكثر تواضعًا وضِيقًا،
قد بغَى الفقر على سَحَنات المشاة به، وعلى وجوهِم قَتَرٌ، وإرهاقٌ كإرهاق
المعذَّبين في الخطوات الأولَى بعد الحريَّة، وفي العيون زيغٌ ومرارةٌ،
كأنَّما في الصدور مآسٍ لا آخر لها، فمَن هنا يشتكي لمن .
حتى وصلتُ
إلى هناك، وما أدراك ما هناك؟! المنعطف الحرج الذي لا تدخله الشَّمس،
والعناكب التي نسجتْ بُيوتًا عظيمةً عند كلِّ ركن وسقف، والجياع وأناسٌ
كأنهم خرجوا من الأجداث ممَّا عليهم من غبرةٍ وفزع ويأس، هناك حيث تشعر أنك
خلَّفتَ وراءك منطقةً صناعيَّةً كبيرة عند العجليِّ، والورش التي بجانبه،
هناك حيث يخيَّل إليك أنك ابتعدت جدًّا، وأنك قد لا تعود، وإن حاولت أن
تعود ضاعتْ بك الدُّروب وتشابهتْ عليك المخارج؛ لتنتهي حيث بدأتَ، فتعود من
جديدٍ في محاولةٍ أخرى للبحث عن مخرجٍ، فتفشل، فتعود، فتفشل، حتى تنهار
أخيرًا على الأرض باكيًا.
هناك حيث تشعر أن ثراءك تهمةٌ، وخيانةٌ للجماعة، واستفزازٌ قد يؤدِّي لتحرُّشِ مَن فاضَ بهم الكيل بك.
هنا
قاع مدينةٍ متربٌ ورطب وحزين، ينسلُّ منه يوميًّا باعة جائلون،
ومتسوِّلون، ومسَّاحو أحذيةٍ، وحمَّالون، ومسَّاحو عرباتٍ، ومُسلِّكو
بلاليع، وهائمون على وجوههم لا ينتظرون شيئًا ولا ينتظرهم شيءٌ، كلُّهم
ينادونك بأفخم الألقاب إذا ما ابتدروا إليك؛ ليخدموك ويذلِّلوا أنفسهم لك،
ويمسحوا سيَّارتك أو يحملوا عنك حملاً في مدينتك؛ لتنقدَهم شيئًا يسيرًا من
نُقُودك، هذا في مدينتك، لكن عندما تدخل خرائبهم تلك، فعليك أن تتأدَّب
وتقلق، وتتمسكن إذا لزم الأمر.
وبعد مدَّةٍ، وأنا في سيري على وصف
الرَّجل في المسار الثُّعبانيِّ أرَى وأشمُّ وأستمع جديدًا، لا أهمل شيئًا
من التَّفاصيل، بدأتُ أشعر بألفة تُجاه الناحية لا أعرف لها سببًا، وصرت
أُمتَّع بشعوري بالرَّهبة الممزوجة بالاستغراب، وأحسستُ براحةٍ لم أشعر بها
أبدًا في هذا السَّبيل العجيب الذي يُمكنني فيه أنْ ألمس الجدران على
جانبيَّ، إنْ مددت ذراعيَّ عن آخرهما؛ وسعدت بسيري بين الدَّجاج الذي ينقر
في الأرض بلا تمييزٍ، والقطط الصَّغيرة التي عبِستْ[1] في بولها والوحل
والتُّراب، تتمسَّح في الجدران وتتثاءب وفي عيونها كسلٌ ودَعَةٌ.
ومررتُ
بين جماعةٍ من الأطفال يلعبون حُفاةً عليهم الأسمال، ودهشتُ من ضحكهم
ومرحهم وهم يلعبون سعداء، لا يشعرون بالضِّيق ولا بالكبت ولا بالعوز، ولا
يتخوَّفون من مستقبلهم الذي لا يعرفه إلاَّ الله.
ورغم هذا السُّرور
العجيب الذي انتابني، إلاَّ أن الأمر لم يخلُ من قلقٍ، لكنه قلقٌ مثيرٌ
يكمل ما أتلذَّذ به، اعتراني بعد أن خلَّفت من ورائي الدَّجاج والقطط
الصغيرة والأطفال الْمَرِحين، قلقٌ من الكلاب التي تبيَّنتْ ضلوعها من
الجوع، وقد سال ريالها، وهم يطاردونني بغير نباحٍ وبغير تهديدٍ، ففي يدي
وجبةُ إفطارٍ رمضانيٍّ كبيرةٌ من مطعمٍ شهير؛ حيث أخذتُ إفطارًا معي
للرَّجل وأسرته، ولأنني لا أعرف حجم أسرته، احتطتُ وجلبتُ ما يكفي عشرةً أو
يزيدون.
كانت الوجبة شهيةً جدًّا ودسمةً، ولها رائحةٌ فوَّاحةٌ
ومثيرةٌ، حتى إنِّي عذرتُ الكلاب الضَّامرة، طبعًا فكَّرتُ بشكل عاطفيٍّ في
أن أجلس على قدميَّ وأحتجر العلبة[2]، وأفضَّها؛ لأرمي منها شيئًا ما،
ولكنِّي - وبشكل عقلانيٍّ من التَّفكير - أدركتُ أنني لو فضضتُ العلبة لخرج
الأمر من يدي، وسأفزع، وسأُخلَب[3]، وستُنتزع مني، وستنتثر خيراتها على
الأرض أمامي، نعم، هكذا يفكِّر بعض الأثرياء؛ للتغلُّب على الأفكار
العاطفية.
المهمُّ: ما ردَّها عنِّي إلا شهم عصبيٌّ يجلس على عتبة
بيته، لاحظ اضطرابي فتناول أحدها بحجرٍ، فوقع الحجر على بطنه الضَّامرة،
فسمعتُ كنقرةٍ على طبلةٍ، فتراجع المصاب يعوي ويتلوَّى من الألم، حقيقةً،
تألَّمتُ لأجله، وودت لو أعوِّضه، ولكني لا أستطيع.
وانسحبتِ الكلاب
بعيدًا مذعورةً خلف أخيها تطمئنُّ عليه، وخُيِّل إليَّ أنها جميعًا تبكي،
والتفتُّ إليها بعد قليل بعين معتذرة، وقد ألهتْ أنفسها باصطياد القُرَاد
من أجسادها، وتقبَّلتِ الأمر الواقع، كأنها من كلاب بلخٍِ![4].
نظرتُ
في كفِّي، للتَّذكِرة التي تركها لي العَجَليُّ، فبدأتُ أستظرفها
وأحبُّها: شحمٌ على كفِّي التي لم تتَّسخ قطُّ، فتذكرت على إثر ذلك أنني
أتحرَّى رجلاً، وأنني لست هنا على سبيل السِّياحة، وأنني أخذتُ من
العَجَليِّ وصفةً وعلائم ثلاث، وقبل أن أفكِّر في سؤال أحد؛ حتى أتأكَّد من
سيري في المسار الصَّحيح، ظهرتْ لي أولَى العلائم التي حدَّدها الرَّجل
بعين جادة، وصوت رجلٍ يترك وصيةً سريَّةً غامضةً: "وإنك ستلاقي بيتًا
طينيًّا عتيقًا مهجورًا مطليًّا بالجير بلونٍ أصفر، مرسومٌ على جداره
الكعبة وجملٌ، ومكتوبٌ عليه دعاءٌ بأن يكون الحجُّ مبرورًا والذَّنب
مغفورًا، وقد تقشَّر سنام الجمل بفعل الزَّمن، وأفصح عن الجدار الطِّينيِّ
تحته".
واستبشرتُ وأنا أمرُّ من أمامه، وأدركتُ أنِّي واصلٌ لا
محالة، "ثَمَّ ماعزان مربوطان إلى شرفة خشبيَّةٍ بالطَّابق الأرضي، وقد
شبَّا على أقدامهما يتناولان بمشقَّة أعوادًا خضراء ذابلةً، قد تدلَّت
أطرافها من فرجةٍ بين ألواح الشُّرفة الخشبيَّة المتهالكة، بيتٌ فماعزان
تحت شرفةٍ، ثمَّ بذاءةٌ بالطَّباشير بحقِّ نادٍ كرويٍّ، هو بعد الشَّتيمة
ببيتين، فهل أُعيد؟".
وها أنا ذا الآن بعد (الشَّتيمة) ببيتين،
إذًا؛ أنا الآن أمام باب بيت (الكُليَة)، عفوًا، بشعٌ جدًّا أن أقول ذلك،
ولكن هذا ما كان يدور بذهني وقتَها، أقصد: بيت الرَّجل الذي سيُقطَع منه
جزءٌ لأجلي.
وقد تسمَّرتُ طويلاً هناك، يدي لا تطاوعني بالدَّقِّ على الباب، وما العمل؟ هل سأقف هكذا بعد كلِّ هذا؟!
ثمَّ
إذ بامرأة شابَّة جادَّة سمراء، ترتدي خمارًا مُسدَلاً، تفتح الباب وتخرج
حاملة فوق رأسها قفصًا به أكياس لمشروبات شعبيَّة ممَّا يروق للعامَّة
شربها، كما يروق للمرفَّهين شربها في الإفطار في رمضان من باب التَّغيير.
أنا
لا أعرف ما في الأكياس بالضَّبط، لعله تمرٌ هنديٌّ أو خرُّوبٌ أو كركديه،
تخطَّتني وكأنها لم ترني، إنَّها إذًا تهرول لتنفذ من الأزقَّة الدُّوديَّة
إلى ناحية الشَّمس والشَّارع العامِّ والمارَّة والمشاغل والورش؛ حيث يوجد
من لديه مالٌ يشتري به بضاعتها البسيطة، أمَّا جيرانها في الحيِّ السَّخط،
فلا أعتقد أن لديهم سعةً للشِّراء منها، لقد دقَّتْ ساعة الصِّفر عندها:
نصف السَّاعة الذي يسبق آذان المغرب والإفطار.
لا أطيل عليك، سألتها
من خلفها عن ضالَّتي: رجل الكُليَة، وما وجدْتَني إلاَّ وقد سألتُ امرأته،
التفتتْ وقالتْ: ذلك، ثمَّ سكتتْ واجمةً، ثمَّ ابتسمتِ ابتسامةً مؤدَّبة
بمشقة، وارتبكتْ محتارةً بين أن تقودني إلى زوجها أو تذهب ببضاعتها؛
لتتكسَّب بها شيئًا يسدُّ الرَّمق؛ إذ أخذتْ تبدِّل نظرها بين الباب
والسَّبيل، وأُعجبتُ بخوفها على مصدر قُوتها.
ولم يكن هذا سبب كلِّ
ارتباكها، أنا لا أخدع نفسي، إنَّها عرفتْ من أنا، أنا المريض الثَّريُّ،
الثَّري الذي سيدفع ثلاثين ألفًا، تُحيي مواتَ هذه الأسرة المدفونة في
الحيِّ الحضيض، والذي طلب عنوان زوجها، ورحَّب زوجها بزيارته في أيِّ وقت،
ذاك أنا، وفي ذات الوقت، كنت رجلاً جاء من المدينة ليخطف بماله بِضعًا من
زوجها، فأطرقتُ مُحرَجًا.
ثمَّ طلبتُ منها شراء كلِّ أكياسها،
وأعطيتها مبلغًا جيِّدًا، وتركتُ الأكياس كما هي فوق رأسها، حتى أساعدها في
اتِّخاذ القرار بأن تسبقني إلى زوجها وتذر البيعَ اليوم، ونجح العرض في
حسم الأمر طبعًا، ومشتْ أمامي جادَّة، ومحتارةً على ما يبدو بين أن تحتقرني
أو تنظر إلَيَّ بتقديرٍ، وخيِّل إليَّ أن في عينيها دمعًا خفيفًا رقراقًا
لامرأةٍ اعتادتْ على أن تكبح مشاعرها.
ودخلنا من بعد الباب إلى
ممرٍّ داخليٍّ بين الغرف بعرض مترٍ، فلا أعرف إن كان هذا بابَ (ربعٍ)
مغلقًا على عديد من الغرف والشُّقق السَّكنيَّة، أم بابَ بيتٍ؟ وعليه فأنا
لا أعرف إن كنَّا في زقاق تمرُّ به الناس أم في طُرقة مما في داخل البيوت
والشُّقق، يسدُّ هذا الزقاق - أو الطرقة - من منتصفه طَسْتُ غسيلٍ تجلس
إليه شابَّة ظهرها لنا، نادتْ عليها المرأة منبِّهةً إياها لقدوم غريب،
فتوارتِ الشابة خجلَى وتركتْ طستها، وقد علتْ يديها الرَّغوة، وأخذتْ
ترمقني من جانبٍ، وترمق العلبة بفضولٍ وهي تتشمَّم بنهمٍ، بينما نحن نمرُّ
من فوق غسيلها وغِسلينه[5].
معي للآن؟ طلبتُ منها أن تخبر زوجها
أنني جئتُ لأفطر معه، فدخلتْ، وتركتني أمام باب مسكنهم، فوقفتُ أجول بنظري
بين ما يقع حولي من معالم عالَمٍ مدهشٍ مُخشوشنٍ.
وتعجَّبتُ من
حمَّام البيت الذي أمامي، وقد قصرتْ بأهل البيت النَّفقة لأن يجعلوا له
بابًا خشبيًّا، ووضعوا ستارًا لا يسبل إلى العتبة، يمكنك أن ترَى مِن تَحته
سطلاً قديمًا من صفيحٍ، والأرضيَّة الكدراء كأنما نمتْ عليها الطَّحالب.
وأنا
في حالتي هذه أقتحم بعينيَّ خواصَّ النَّاس، وقد استندت إلى الحائط بظهري
وباطن حذائي، إذ بالمرأة تستدير من داخل، وتطلُّ عليَّ وتشير لي بأدبٍ بأنْ
ألِجَ من الباب الذي عن يميني آخر الطُّرقة، وأنتظر زوجها هناك، وهو باب
إزاء الباب الذي دخلنا منه، ويبدو أنها تحسَّستْ من وقوفي ناظرًا للحمَّام
البائس.
دخلتُ من الباب، فوجدت فناءً صغيرًا مكشوفًا يصله ضوء
النَّهار، به حبال غسيلٍ خاليةٌ، وفي ركنه الآخر طقم غرفة استقبالٍ قديمٌ
جدًّا، كان فاخرًا يومًا ما، ويبدو أن أصحابه قد استغنوا عنه ورموه،
فالتقطه أصحاب (الرَّبع) واستخدموه؛ ليكون مناسبًا لاستقبال الضُّيوف، وقد
علاه الغبار، وتخلخلتْ بعض أرجله، وتغيَّر لونه الأحمر القاني وصار إلى
الأحمر الرُّمَّانيِّ، وثمَّة بقعتان على كنبته من آثارٍ قديمةٍ لبول
الأطفال.
خرجتْ بمنفضةٍ، ونفَّضتْ الكراسي والكنبة بهمَّةٍ وحرجٍ،
ودعتني لأن أجلس، فجلستُ ما بين البقعتين وطرحتُ علبة الطَّعام الكرتونيَّة
على الكرسيِّ المجاور، بينما كان الغبار قد تهيَّج في جو الفناء حولي.
ومضى
بي وقتٌ وأنا منشغلٌ بما حولي: زير الماء الذي وُضِع له صنبورٌ عند أسفله،
والصَّوت الرَّتيب لقطراته التي تنزل على حجر صغير، وبقلةُ حِلْبةٍ صغيرةٌ
نبتتْ بالقرب منه ترتوي من قِطاره، وكأنها نبتتْ هنا لتذكرني بكُليَة
الرَّجل، فحبُّة الحلبة مثل الكُليَة في الشَّكل.
وهذه نحلةٌ وقفتْ
تطنُّ تحت الزِّير، ثمَّ حامتْ حول الحلبة، وذلك ظهرُ لوحٍ من الخشب أُغلِق
به ممرٌّ آخر من الفناء إلى جهةٍ أخرَى خارج (الرَّبع)، وهو مثبَّتٌ على
حائط الناحية الأخرَى، ولا يبدو منه من ناحيتي إلاَّ جزءٌ بسعة الباب الذي
سدَّه، وقد كان باللَّوح الخشبيِّ ثقبٌ مرَّتْ منه النَّحلة.
وكذلك
أخذتُ أنظر إلى صورة (بروس لي) القديمة على الحائط، وقد وقف بسراويله
الأُسودُ مستنفرًا، وعلى بطنه جروحٌ، عجبًا! حتى الذُّباب هنا هلسه
الجوع[6]، وذهب بعقله، فوقف على جراح (بروس لي) لاعقًا!
ثمَّ كانت
بانتظاري مفاجأةٌ، لا أستطيع أن أصف لك مقدار خزيي واحتباسَ أنفاسي وتهدُّل
كتفي، وكيف سقط وجهي إلى الأرض، لَمَّا رأيتُ رجل الكُليَة أمامي، وعظم
تَرقُوتيه يظهر مثيرًا للشَّفقة من جلبابه الأبيض المهلهل، يستند على
عكَّازتين مشلولاً.
وحكى لي كيف أنه كان يعمل بكلِّ جدٍّ وأمانةٍ
بمستودعٍ بأحد المصانع، وبراتبٍ زهيدٍ، حامدًا شاكرًا، وقد استغنَى عنِّي
المالك الجديد منذ شهرٍ، وقال: أنْ لا فائدةَ تُرجى من وجودي.
ورفع
رأسه لأعلَى كمن يحاول أن يسيطر على مشاعره ويتأبَّى على الدَّمع، لكنه لم
يستطع، دمعتْ عيناه، فنظرتُ إلى عينيه وهو يُحاول أن يرفعهما عن بصري،
فدمعتْ عيناي أيضًا، فأخذت أطيِّب خاطره، وأواسيه؛ ثمَّ استغرقنا في حديثٍ
وُدِّيٍّ رقيقٍ، كأننا متعارفان منذ زمنٍ بعيدٍ، أحاول أن يكون حديثنا
خفيفًا يبعث على السُّرور.
ثمَّ نظرتُ إلى الساعة، وطلبتُ منه أن
ينادي زوجه؛ لتضع لنا طعام إفطارنا، ولقد جاءتْ، وأخذتْ من العلبة ووضعتْ
لنا طعامنا، وتحرَّكتْ بها كنحلةٍ نشيطة، توزِّع الطَّعام على جيرانها
الجُنُب وهي سعيدةٌ بأنها تسرُّهم، ثمَّ دخلتْ لتأكل في بيتها ما أبقتْ،
وما كنت أظنُّ أن أحدًا قد بقِيَ على وجهها ممَّن يؤثرون على أنفسهم ولو
كان بهم خصاصةٌ، وجلستْ في مِهْنَتنا عند بابها مستترةً عنِّي، وقد ناديتُ
بها: أنْ يا أختاه، اجمعي لي العظام أحملها معي في ذهابي.
انتهينا
من طعامنا، ثمَّ شربنا الشَّاي أنا والرَّجل، ومزحنا وسمرنا، وتوضَّأتُ من
ماء الزِّير، وأنا أشمُّ رائحةً كرائحة وردٍ قد أنعشه المساء والبلل، ثمَّ
إننا ذهبنا معًا لصلاة العشاء والتَّراويح، في مصلًّى صغيرٍ بالحيِّ، وقد
ذكَّرنا الإمام بأننا في العشر الأواخر، وأنَّ علينا أن نتحرَّى ليلة القدر
التي هي خيرٌ من ألف شهرٍ، وأن نتقرَّب إلى الله بالأعمال الصَّالحة، وذكر
لنا حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الأعمال إلى الله
سرورٌ تدخله على مسلمٍ))، فتمنَّيتُ أن أتقرَّب إلى الله في هذه الأيَّام
المباركة بأحبِّ الأعمال إليه، ثمَّ صلَّيتُ، بين تلك الزُّمرة من
المضطرِّين، يؤمِّنون على دعاء الإمام بكلِّ فقرٍ إلى الله، وصاحبي عن
يميني يرتجف في الدُّعاء، فبكيتُ له، ثمَّ بكيتُ لنفسي، ثمَّ إنِّي شعرت
بنورٍ يغسلني وسط المساكين.
خرجنا من صلاتنا وسرنا إلى بيته، وأنا
خفيف النَّفْس، وقد امتلأ قلبي - من عند الله - حبًّا للرَّجل، ودخلنا
بيته، وبينما كانت زوجه تقدِّم لنا كوبين من التَّمر الهنديِّ الذي اشتريته
منها، أعطيتُ ظهري للحبيب، وكتبتُ له شيكًا مصرفيًّا بثلاثين ألفًا،
وأعطيته إيَّاه، وقلت له: أنْ لا حاجة لي إلى كُليَتك يا صاحبي، وتلجلج
كأنَّما لا يصدِّق، وبدأتْ يداه ترتعشان من وقع الخبر عليه، فقلتُ له
باسمًا وأنا واثقٌ من أنني لن أعود فيما أعطيتُ، وأنِّي وُقِيتُ اللَّيلة
شحَّ نفسي: لعلَّها ليلة القدر.
وتركتهما من خلفي يبكيان فرِحينِ،
يربِّتان على كتف بعضهما بعضًا، يخرجان من صدريهما آهاتٍ تذيب الحجر،
ويدعوان لي برضا الله والجنَّة وحسن الختام، حتى أصاب جسمي بردٌ وقشعريرة
من دعائهما، ودمعتْ عيناي، ومِلتُ إلى الأرض، وأخذتُ العظام التي جمعتها
المرأة في كيسٍ.
وخرجتُ ليلاً في راحةٍ ما بعدها راحة، وكأني نسيتُ
أني بحاجةٍ إلى كُليَةٍ، أمرُّ مبتسمًا في هدأة اللَّيل، على ماعزين وقططٍ
ودجاجٍ، كلُّها نائمةٌ في أمانٍ، وأخذتُ أوزِّع العظام على كلاب بلخٍ
الرَّاقدة، وزدتُ المصابَ ضِعفًا من الطَّعام، فأخذتْ تتشمَّم، وفتحتْ
أعينها، هيَّا، طعام اللَّيلة بلا عناءٍ، وشكرتِ الله على الرِّزق الذي
ساقه إليها بغير نباحٍ وركضٍ في اللَّيل الوسنان، ووضعته بين ساقين، وأخذتْ
تأكل بسعادةٍ ورضا.
ولَمَّا خرجتُ حتى وصلت إلى حيث ركنت سيَّارتي
عند محل الزُّهور، وأدرتُ مفتاحها وفتحتُ زجاجها، راحت منِّي نظرةٌ شاردةٌ
إلى صورة الحديقة والشَّجرة المثقوبة فيها، فأطفأتُ السيَّارة ونزلتُ منها،
واقتربتُ من صورة الحديقة؛ حيث وقع في نفسي ظنٌّ عجيبٌ أحببتُ أن أتأكَّد
منه، وحرصت على ألاَّ أنظر هذه المرَّة وأمتِّع عيني بما هو مدهشٌ كما
اعتدتُ.
كما أنه لا يصحُّ أن يُرَى رجلٌ عاقلٌ راشدٌ وهو ينظر من
ثقبٍ إلى ما خلف الأستار، وبينما كان عامل الأزهار قد دخل محلَّه، أخرجت
جوَّالي، ووضعته على أذني كأني أجري مكالمةً، وقرَّبتُ فمي من الثُّقب الذي
بجذع الشَّجرة وأنا أستند إليها، وناديتُ به مرَّتين أسأله إن كان به
حاجةٌ أخرى إليَّ، وانتظرتُ قليلاً، ثمَّ ناديتُ به مرَّةً أخرى،كأني أنادي
بالجوَّال، فتأوَّه اندهاشًا من داخلٍ: أأنت هنا؟! وتأوَّهتُ أنا أيضًا،
وضحكنا ونحن على جانبي الجدار العازل، ومشيت سعيدًا سعيدًا، كان قريبًا
جدًّا.
تلك - يا صاحبي - حوادث اللَّيلة السَّعيدة التي سبقتْ
زيارتي للطَّبيب، الزَّميل لأكبر كليَّات الطِّبِّ بالعالم، والذي خرج
إليَّ مندهشًا مسرورًا بنتائج الفحوصات التي تؤكِّد سلامة كُليَتي كلَّ
السَّلامة، وهو يسبِّح لله مختلج الشَّفتين.