أما قبل .. وأما بعد
أما قبل .. وأما بعد
بسم الله الرحمن الرحيم
أما قبل .. وأما بعد
(قصة قصيرةبقلم محمد مغربى مكى)
أما قبل ...
فهنالك فى الأفق البعيد ، فى بقعة نائية من هذه الأرض الواسعة ، كانت الشمس تؤذن بالمغيب ، تزداد اصفراراً وهى تنحدر عند الأفق ، تلملم غلائلها الذهبية عن قمم التلال ، وتسحبها فوق الرمال ... فى صمت مهيب .
تتنهد الأرض ، وتفتح صدرها لنسمة المساء الرقيقة ، وهى تمنى النفس بليلة صيفية معتدلة ، بعد أن أرهقتها الشمس بلفحها المتواصل .. طوال النهار .
فى قلب هذا السكون ، جلس الفتى يتأمل لحظة المغيب ، وبقايا أضواء الشمس الغاربة ، تتماوج على صفحة وجهه النبيل ، بينما تداعب هبات النسيم خصلات شعره الأسود ، الذى يسترسل حتى منتصف أذنيه ، عيناه سوداوان ، جميلتان عميقتان ، تزيدهما الشكلة فيهما غموضاً وسحرًا ، ينظر : وكأنه يستكنه المجهول ، ويستشرف المستقبل ، ويرى ما لا يراه الآخرون . (1)
تتمطى غبشة الأصيل ، وتزداد كثافتها عبر الدقائق المتثاقلة ، فيما تتلألأ بعض النجوم المبكرة هنا وهناك فى السماء الفسيحة ، وقبل أن تشتد الظلمة فتبتلع كل الملامح ، يميل الفتى بعينيه إلى قريته الصغيرة القابعة هناك ، والتى هدأت حركتها .. إلا من نباح كلب لم يغشه النوم بعد ، وتجاوب ديكين ظنا خطأً .. أن الفجر قد أوشك .
لكم يحب هذه القرية على بساطتها ورقة حالها ، لكم يحب دروبها وشعابها ، وبيت عبادتها القديم المتواضع ، الذى يأتى الناس لزيارته .. من هنا وهناك .
على غير انتظار.. تهوم فى عينيه أطياف حزن دفين ، حزن لا يكاد يخفى .. ولا يكاد يبين .
يقولون : "الليل .. أخفى للويل" (2) ، أجل .. ولكنه أيضًا : أدعى للشجون !
لقد مات أبوه غريباً عن قريته (3) وهو ما يزال جنيناً فى بطن أمه (4) ، ثم لحقت الأم به وهو طفل لم يعد السادسة (5) ، فاحتضنه جده الطيب الذى آثره على سائر أبنائه وأحفاده (6) ، والذى احتمله يوم ولادته فدخل به إلى بيت العبادة ، وقام يدعو ربه ويشكر لـه ما أعطاه (7) ، وما لبث ذلك الجد أن رحل عنه (8) ، تاركًا إياه يتيم الأب والأم والجد وهو بعد فى الثامنة ، ليعيش فى كنف عمه (9) ، الذى اصطحبه منذ صغره فى رحلاته التجارية (10) ، حتى أتقن ذلك الفن من فنون الحياة .
آه .. كم تكون الأيام أحيانًا .. قاسية !!
وإذا كانت الضربة التى لا تقتلك ، تزيدك – كما يقولون – عزيمة وقوة ، فإن تلك النكبات المتوالية فى سنه الصغيرة ، لم تزد الصبى الغض عزيمة وقوة فحسب ، بل زادته رقة ورحمة ، فاض شلالها الدفاق على المحيطين به كبارًا وصغارًا ، بل وعلى صنوف الحيوان أيضًا .. قبل بنى البشر .
يجول فى ذهنه خاطر ..
ألا ينبغى لـه أن يتناسى هذا الحزن الدائم ولو إلى حين ؟ ليلة .. أو ليلتين ؟
غدًا تُزف إليه عروسه ، تلك المرأة الحازمة الشريفة ، التى اختارته لنفسها بعد ما رأت من صدقه وأمانته ، ونبله وكرامته ، فارتضاها زوجًا له ، وأرسل عمه إلى أبيها فخطبها إليه (11) .
هى فى الأربعين ، وهو فى الخامسة والعشرين ، غير أن فارق السن هذا لم يحل دون اقتناعه بأنها أفضل اختيار ، وأنها خير زوج ، ولعله .. لعله لم ير فيها زوجًا صالحة فحسب ، بل رأى فيها أيضًا : أمًا ، أمًا تعوضه عما فاته من حنان الأم وعطفها .
ألا يحق لـه إذن أن يرجئ الحزن .. ليلة ؟
إنه يدرك تماما أن حزنه ليس نابعًا من تفرده * فلقد نشأ طويل الصمت ، قليل الضحك ، جم الحياء ، محباً للخلوة ، ميالاً إلى العزلة ، وما أحلى تلك الأيام – أيام صباه – التى قضاها بين أحضان الطبيعة العذراء ، يرعى غنم أهله ، بعيداً عن صخب القرية وضجيج أهلها .
إنه فقط : لا يأتلف مع أقرانه من الشباب المتوسلين إلى اللهو والمتعة بشتى الوسائل والأسباب ، لقد شاركهم فى طور الصبا بعض الألعاب البريئة كـ" عُظَيْمِ وَضَّاح" (12) ، أما وقد شبوا ، وتحكمت فيهم أهواء الشباب الرعناء ، فلقد صار يكره كثيراً .. مما صاروا يحبون .
يكره الخمر التى يهيمون بها ، ويزعمون أنها تمنحهم النشوة والسعادة ، وإنه ليتساءل : أية نشوة وأية سعادة فى ذهاب العقل ، وسقوط الهمة ، وسخرية الكبار والصغار من المخمور، وهو يتخبط على غير هدى .. فى المجالس والطرقات ؟؟
يكره المقامرة التى يعشقونها ، ويدعون أنها تغمرهم بالمتعة والإثارة ، فيلعبون الميسر ، ويجيلون القداح ، ويستقسمون بالأزلام !
وأية متعة فى ضياع المال الذى قد يكون – بل هو بكل تأكيد – قوت العيال ؟
وأية إثارة فى تلك الخسارة ، وما يعقبها من سعار القامر .. وندامة المقمور ؟
ويكره الفسق الذى ينتهزون إليه كل فرصة ، ويسعون إليه أنى وجد ، ويحققون فيه – على زعمهم – تمام اللذة ، وكمال الرجولة !
وهل فى هتك الأعراض ، وشيوع الفاحشة ، وانهيار القيم .. لذة ورجولة ؟؟
يبتسم .. يذكر ليلة حدثته نفسه التواقة للمعرفة ، أن يقصد إلى بعض دور اللهو فى قريته ، ليعرف بعض ما يصنعون من قبيل حب الاستطلاع ، فإذا به يغرق فى نوم عميق ، لا يفيق منه إلا بعد أن مسه حر الشمس ، ضحى اليوم التالى ! (13)
ينزلق الفتى فى جلسته حتى يريح ظهره ، يشبك كفيه تحت رأسه ، ويتأمل السماء فوقه وقد باتت مخملاً أسود ، تتناثر فوقه آلاف اللآلئ المتوهجة ، المتفاوتة حجماً وبريقًا .
يا الله ! .. ما أروع هذه السماء ! وما أكثر ما تخفيه من أسرار!
يعرف أن قريته أحب البلاد إليه ، وأن قومه أقرب الناس إلى قلبه ، وما كره منهم ما كره إلا حبًا لهم ، وحرصًا عليهم ، وأملاً منه فى أن يكونوا خيرًا مما هم عليه .
إنه يحبهم .. ولكنه لا يرضى منهم عن كثير ...
كيف يرضى عن هيامهم بالخمر والمقامرة والفجور ؟
كيف يرضى عن تفانيهم فى الغارات والحروب والأخذ بالثأر ؟
كيف يرضى عن تغابنهم فى البيع والشراء ، وظلم بعضهم بعضًا ، وأكلهم أموالهم بالباطل ؟
كيف يرضى عن معاملتهم لبعض بنى البشر معاملة البهائم ، بدعوى أنهم "عبيد لهم" ؟؟
كيف يرضى عنهم ، وهم يتلاعنون ويتخاصمون ، ويتنابزون بالألقاب ، ويتفاخرون فيما بينهم بالأموال .. والأولاد .. والأنساب ، فينهر الغنى الفقير ، ويقهر العزيز الضعيف ، ويزرى الشريف بالخامل .. عدوًا بغير الحق .
بل كيف يرضى عنهم ، وهو يرى الرجل منهم ، يحفر الحفرة فى الأرض الخلاء ، ثم يلقى فيها ابنته الطفلة ، ويهيل عليها التراب ، يدفنها حية بيديه .. وهى تنظر إليه ، لأنها : قد .. قد تجلب عيه عاراً .. عندما تكبر ؟؟
وكيف يرضى عنهم ، وهم يعتقدون فى الكهانة والعرافة ، والزجر والعيافة ، والفأل والطيرة ، والهامة والصَّفَر ، والبلية والتعشير ، والتمائم والرتائم ، والبحيرة والسائبة ، والوصيلة والحامى ، والسعالى والغيلان ؟؟ (14)
لقد كره منهم تلك الخصال ، وأنكرها عليهم ، ووجد فى كل منها سببًا .. بل أسبابًا .. تبعده عنها ، وتنفره منها ، فالتزم فى حياته الصدق والأمانة ، حتى عُرِف فيما بينهم بأنه الصادق ، وبأنه الأمين (15) ، بل إنه ليجد نفسه – وهو الأمى – سعيداً بأميته ، التى حفظته مما يتداولونه فيما بينهم ، ويظنونه جُماع العلم ، وهو فى حقيقته : جماع كل الجهالات .
ولعل كل ذلك – على جسامته وفظاعته – ليهون ويصغر ، أمام الطامة الكبرى ، وثالثة الأثافى ، وهى أن الرجل منهم على شرفه وعلو همته ، ليتخذ من الحجر أو الخشب .. ربًا ! ينحته هو على هواه ، أو يشتريه بالثمن الزهيد "جاهزًا" .. من "سوق الأرباب" !!
ينصبه فى زاوية من زوايا بيته ، وإذا هم بسفر تمسح به حين يركب ، فكان ذلك آخر ما يصنع حين يقوم إلى سفره ، فإذا قدم من سفره تمسح به ، فكان ذلك أول ما يبدأ به قبل أن يدخل على أهله ، ثم هو يجثو أمامه ، يلبى ويدعو ، ويستغفر ويستنصر ، ويفعل ما لا تفعل الأنعام .. جهلاً وسفاهة .
لقد نصبوا الكثير منها عند بيت العبادة ، حتى لقد بلغ عددها أكثر من ثلاثمائة وستين صنمًا ، يحجون إليها ، ويرفعون لديها أصواتهم بالتلبية والدعاء ، ويقدمون لها القرابين والنذور تضرعاً وخيفة ، وما لهم فى ذلك من حجة ، إلا أنهم قد وجدوا آباءهم عليها عاكفين !! (16)
أمرهم فى ذلك عجب .. عجب .. عجب !!
عجب أنهم تركوا حنيفية سمحاء ، كانت ديانة جدهم الأعلى ، تركوها .. حتى اندثرت .. أو كادت تندثر . (17)
وعجب أنهم أعرضوا عن المسيحية واليهودية ، رغم معرفتهم بهما ، ورغم إدراكهم أنهما ديانتان سماويتان .. جديرتان بالاحترام !
أما العجب العجاب .. الطامة الكبرى .. ثالثة الأثافى ، فهى : عبادة الأصنام !
أفٍ لهم .. ولما يصنعون !! أفلا يعقلون ؟
.. وأما بعد
فلقد مرت السنون تترى .. سبعة وثلاثون عاماً مرت .. صار الفتى النبيل عبرها : رجلاً عظيماً ، لم تكن تلك السنون جزءًا من عمر فرد .. بل كانت عمر أمة ، وما زاد الرجل العظيم كر السنين إلا جمالاً إلى جمال ، وجلالاً إلى جلال ، وهيبة إلى هيبة .
سويعات قليلة .. يخرج بعدها إلى جموع الحجيج الواقفة على جبل "عرفات" ، والمتلهفة لرؤيته ، وسماع صوته .
يسبح فى تأملاته ، ويمر شريط ذكرياته الحافل بالمجد والعظمة أمام عينيه ، وما أروعها من ذكريات ! إنها ذكريات النبى الداعى إلى الله الواحد الأحد ، والمرسل لا إلى قومه فحسب ، ولكن إلى الناس كافة : شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه ، وسراجًا منيرًا .
ذكريات نبى : تحمل وحده فى سعة صدر وجميل صبر ما لا تطيقه الجبال ، فحمل الأمانة وأدى الرسالة ، وأعلى كلمة التوحيد ، ونشر النور والمحبة والسلام .. بين بنى البشر .
ذكريات نبى : أدرك أن محبة البشر وإن كانت ترهف المشاعر ، وترقق الأحاسيس ، فإنها غالبًا ما تعمى البصيرة .
أما محبة الله : فإنها ترهف المشاعر ، وترقق الأحاسيس ، وتضىء البصيرة ، فضلاً عن شمولها .. محبة البشر .
إنه يذكر الآن كيف بدأت تلك المسيرة العظيمة ، بداية عظيمة ، يذكر كيف بدأت بتلقى وحى السماء إليه ، ونزول القرآن الكريم عليه : معجزته الخالدة ، الباقية على وجه الزمان .
لقد بدأ الوحى بتقديسه عن سائر الخلق من الأرجاس ، وتطهيره من الأدناس ، ليصفو فيُصطفى ، ويخلص فيستخلص ، فما سجد لصنم قط ، ولا أتى حرامًا قط ، وما خان ولا غدر ، ولا هان ولا فجر ، وكان دائمًا وأبدًا .. الصادق الأمين .
واكب ذلك الرؤى الصادقة ، يراها فى منامه فتجىء مثل فلق الصبح (18) ، فكان ذلك إذكارًا بالرسالة * ليروض لها نفسه ، ويختبر بها حواسه ، فيقوم بأعبائها إذا بُعث ، وهو عليها قوى ، وبها ملى .
تلا ذلك : البشرى بالنبوة عن ملك أخبره بها عن ربه ، واختصت بشراه بالإشعار ، وتجردت من التكليف والإنذار ، ولقد مكث ثلاث سنين ، يسمع حس الملك ولا يرى شخصه ، ويعلمه الشيء بعد الشيء ، ولكن لا ينزل عليه بقرآن (19) .
ثم بلغ الأربعين ، وبينما هو يتحنث فى غار حراء ، نزل عليه "جبريل" بوحى ربه "فقال له : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ! فأخذه الملك فضمه حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله ، وقال له : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ !! فأخذه ، فضمه الثانية حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله ، وقال له : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ ! فأخذه ، فضمه الثالثة حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله ، وقال : " اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم " (20) ، فرجع بها إلى زوجه "خديجة" ، يرجف فؤاده ، ويقول : "زملونى .. زملونى" فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى ! فقالت الزوجة الحكيمة : "كلا والله ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق" (21) .
ثم توالى نزول جبريل عليه ، وأخبره أنه نبى الله ورسوله ، واقتصر به على الإخبار ، ولم يأمره بالإنذار ، ليعلم النبوة بعد البشرى عيانًا ، ويقطع بها يقينًا ، فيكون معتقده بها أوثق ، وعلمه بها أصدق ، فلا يعترضه وهم ، ولا يخالجه ريب .
ثم إنه أُمر بعد النبوة بالإنذار .. فصار به رسولاً ، ونزل عليه القرآن بالأمر والنهى .. فصار به مبعوثًا ، ولم يؤمر بالجهر وعموم الإنذار * ليختص بمن أمنه ، ويشتد بمن أجابه .
ثم كانت المرتبة الأخيرة من الوحى ، والتى أُمر فيها أن يعم بالإنذار بعد خصوصه ، وأن يجهر بالدعاء إلى الإسلام بعد استسراره ، وذلك بعد ثلاث سنين من بعثته ، فجهر بالدعوة ، بعد أن أُمر أن يبدأ بعشيرته الأقربين ، فصار بعموم الإنذار والجهر بالدعوة إلى التوحيد والإسلام ، صار عام النبوة ، مبعوثًا إلى كافة الأمة ، فكمَّل الله تعالى بذلك نبوته ، وتمم به رسالته ، فصدع بأمر ربه ، وقام بحقه ، وجاهد بإنذاره ، وعم بدعائه ، حتى خصم قومه حين جادلوه ، وصابرهم حين عاندوه ، على جمعهم الغفير ، وكيدهم الكبير (22) .
يذكر أنه عندما أمره ربه بإبلاغ الرسالة إلى الخاص والعام ، وأمره بالصبر والاحتمال ، والإعراض عن الجاهلين ، والمعاندين المكذبين بعد قيام الحجة عليهم ، بدأ بعشيرته الأقربين تلبية لأمر ربه حين قال : "وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إنى برىء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذى يراك حين تقوم وتقلبك فى الساجدين إنه هو السميع العليم" (23) .
فكانت "خديجة" أول من أسلم على الإطلاق ، وأول من أسلم من الموالى "زيد بن حارثة" ، ومن الغلمان "على بن أبى طالب" ، وهؤلاء كانوا إذ ذاك أهل البيت ، وأول من أسلم من الرجال الأحرار "أبو بكر الصديق" ، وكان إسلامه أنفع من إسلام من تقدم * إذ كان صدرًا معظمًا ، ورئيسًا فى قريش مكرمًا ، وداعية إلى الإسلام ، باذلاً ماله فى طاعة الله ورسوله (24) .
ثم توالت هدايات الله لمن شاء من عباده ، وكان إسلام "عمر بن الخطاب" – على وجه الخصوص – علامة فارقة فى تاريخ الدعوة * إذ جاء إسلامه استجابة لدعاء النبى ربه بأن يعز الإسلام به أو بـ"عمرو بن هشام" ، فأراد الله به الخير وشرح صدره للإسلام عندما قرأ فى بيت أخته "فاطمة بنت الخطاب" :
"طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى" (25) فجهر بإسلامه ، وجهر بهجرته ، وتحدى جموع الكافرين ، وأعزه الله بالإسلام وأعز الإسلام به ، حتى لقد صار قمة شامخة على أرض التاريخ .
يحمد النبى ربه ، وهو يتفكر فيما كان عليه الناس قبل الإسلام ، وفيما آل إليه أمرهم بعده .
لقد بادت الأصنام إلى غير رجعة ، وعبد الناس الله الواحد الأحد ، وعرفوا معنى الطهارة الحسية والمعنوية ، وقاموا بتكاليف العبادة ، وعاشوا القيم السامية والأخلاق الفاضلة والسلوكيات الحميدة ، فتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، وطبقوا وسطية متوازنة بين الروح والمادة .
لقد احترم الإسلام الإنسان ، واحترم حرية العقيدة ، وحق الإنسان فى أن يدين بما يشاء من ديانات السماء ، فاحترم الإسلام الديانات السابقة عليه ، واحترم الأنبياء والمرسلين قبله ، وجاء القرآن الكريم مصدقًا لكل ما سبق من كتب سماوية ومهيمنًا عليها ، وأعلى قيمة العلم والفكر والعقل إلى جانب قيمة الإيمان والعقيدة والروح .
يحمد النبى ربه ، وهو يرى المجتمع المسلم يتعاون على البر والتقوى ، ويتفاضل فيه الناس بتقواهم وإيمانهم ، لا بأحسابهم وألوانهم ، فلا رق ولا عبودية ، والناس سواسية كأسنان المشط ، والمرأة محفوظة الكرامة عزيزة المكانة ، فلا وأد ولا مجانة ، ولا خمر ولا قمار، ولا رفث ولا فسوق ، ولكن مجتمع نقى يحيا على السمو والرقى والتقوى .
يحمد النبى ربه ، وهو يذكر كيف كانت هجرته إلى المدينة المنورة ، البداية الحقيقية لنشوء الأمة الإسلامية ، وكيف تتابع الجهاد ، وتوالت الفتوح والغزوات ، حتى وحَّد الإسلام أشتات القبائل فى أمة واحدة التزمت فى دعوتها بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما أمر الله سبحانه فى قوله : "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" (26) ، ثم أقاموا دولتهم على أساس راسخ من العدل والشورى وتقوى الله العزيز الحميد .
لقد نزل جبريل – عليه السلام – بقوله سبحانه :
"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الإسلام دينًا" (27) .
صدق الله العظيم
يحين وقت اللقاء .. فيعود رسول الله r من رحلة ذكرياته ، ويخرج إلى وفود الحجيج ويقف فيهم خطيبًا ، وهو يدرك ببصيرته الصافية أنها .. خطبة وداع ، فيكون مما قال فيها :
" أيها الناس : اسمعوا قولى ، فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعد عامى هذا بهذا الموقف أبدًا .
أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا ، وحرمة شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، وقد بلَّغت ، فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها " .
وقال : " أيها الناس : إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدًا ، ولكنه رضى أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم ، فاحذروه على دينكم " .
وقال : "أيها الناس : استوصوا بالنساء خيرًا * فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئًا ، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فاعقلوا أيها الناس واسمعوا قولى فإنى قد بلَّغت ، وتركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا : كتاب الله وسنة نبيه" .(28)
شهور قلائل .. ينتقل بعدها النبى الكريم إلى جوار ربه .
خاتمة :
القارئ العزيز
كانت تلك قصة نبى ، عرضتها لك عرضًا بالغ الإيجاز وأنا على يقين من أننى لم أنصفه بقدر ما ظلمته * لأن جوانب العظمة فيه أكثر من أن يستوفيها وصف ، وسمو شخصيته أكبر من أن يحيط به بيان .
وإنى لأتساءل هنا معك :
أيستحق مثل هذا الإنسان العظيم ، الذى عده المؤرخ الأمريكى "مايكل هارت" أعظم رجال التاريخ على الإطلاق فى كتابه "الخالدون مائة ، أعظمهم محمد" ، أيستحق هذا الخالد العظيم أن يصوره البعض فى صورة مشينة ساخرة دونما سبب أو ضرورة ؟؟
ألا ترى معى .. أن من فعل ذلك ، إنما هو متعصب أعمى ، وجاهل أحمق ، لا دين له ، ولا أخلاق عنده ؟؟
إننى أستحلفك بما تدين به ، أن تقول كلمتك : كلمة الحق من وحى ضميرك ، إن كنت ممن يؤمنون بالحق ، ويدافعون عنه فى حرية وشجاعة .
أيها القارئ العزيز .. شكرًا لك .